|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الِاغْتِرَارُ بِالدُّنْيَا
الِاغْتِرَارُ بِالدُّنْيَا وَأَعْظَمُ الْخَلْقِ غُرُورًا مَنِ اغْتَرَّبِالدُّنْيَاوَعَاجَلَهَا، فَآثَرَهَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَرَضِيَ بِهَا مِنَ الْآخِرَةِ، حَتَّى يَقُولَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: الدُّنْيَا نَقْدٌ، وَالْآخِرَةُ نَسِيئَةٌ، وَالنَّقْدُ أَحْسَنُ مِنَ النَّسِيئَةِ. وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: ذَرَّةٌ مَنْقُودَةٌ، وَلَا دُرَّةٌ مَوْعُودَةٌ. وَيَقُولُ آخَرُ مِنْهُمْ: لَذَّاتُ الدُّنْيَا مُتَيَقَّنَةٌ، وَلَذَّاتُ الْآخِرَةِ مَشْكُوكٌ فِيهَا، وَلَا أَدَعُ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ وَتَسْوِيلِهِ، وَالْبَهَائِمُ الْعُجْمُ أَعْقَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ إِذَا خَافَتْ مَضَرَّةَ شَيْءٍ لَمْ تُقْدِمْ عَلَيْهِ وَلَوْ ضُرِبَتْ، وَهَؤُلَاءِ يُقْدِمُ أَحَدُهُمْ عَلَى مَا فِيهِ عَطَبُهُ، وَهُوَ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ. فَهَذَا الضَّرْبُ إِنْ آمَنَ أَحَدُهُمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِقَائِهِ وَالْجَزَاءِ، فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ حَسْرَةً، لِأَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى عِلْمٍ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَأَبْعَدُ لَهُ. وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ: النَّقْدُ خَيْرٌ مِنَ النَّسِيئَةِ. جَوَابُهُ أَنَّهُ إِذَا تَسَاوَى النَّقْدُ وَالنَّسِيئَةُ فَالنَّقْدُ خَيْرٌ، وَإِنْ تَفَاوَتَا وَكَانَتِ النَّسِيئَةُ أَكْبَرَ وَأَفْضَلَ فَهِيَ خَيْرٌ، فَكَيْفَ وَالدُّنْيَا كُلُّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَنَفَسٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْفَاسِ الْآخِرَةِ؟ كَمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ؟" فَإِيثَارُ هَذَا النَّقْدِ عَلَى هَذِهِ النَّسِيئَةِ، مِنْ أَعْظَمِ الْغَبْنِ وَأَقْبَحِ الْجَهْلِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا نِسْبَةَ الدُّنْيَا بِمَجْمُوعِهَا إِلَى الْآخِرَةِ، فَمَا مِقْدَارُ عُمُرِ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ، فَأَيُّمَا أَوْلَى بِالْعَاقِلِ؟ إِيثَارُ الْعَاجِلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، وَحِرْمَانُ الْخَيْرِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ، أَمْ تَرْكُ شَيْءٍ حَقِيرٍ صَغِيرٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ قُرْبٍ، لِيَأْخُذَ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا خَطَرَ لَهُ، وَلَا نِهَايَةَ لِعَدَدِهِ، وَلَا غَايَةَ لِأَمَدِهِ؟ وَأَمَّا قَوْلُ الْآخَرِ: لَا أَتْرُكُ مُتَيَقَّنًا لِمَشْكُوكٍ فِيهِ، فَيُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى شَكٍّ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، أَوْ تَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتَ عَلَى الْيَقِينِ فَمَا تَرَكْتَ إِلَّا ذَرَّةً عَاجِلَةً مُنْقَطِعَةً فَانِيَةً عَنْ قُرْبٍ، لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا انْقِطَاعَ لَهُ. وَإِنْ كُنْتَ عَلَى شَكٍّ فَرَاجِعْ آيَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى الدَّالَّةَ عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ، وَتَجَرَّدْ وَقُمْ لِلَّهِ نَاظِرًا أَوْ مُنَاظِرًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَأَنَّ خَالِقَ هَذَا الْعَالَمِ وَرَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَتَعَالَى وَيَتَقَدَّسُ وَيَتَنَزَّهُ عَنْ خِلَافِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ عَنْهُ، وَمَنْ نَسَبَهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ شَتَمَهُ وَكَذَّبَهُ، وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتَهُ وَمُلْكَهُ، إِذْ مِنَ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ عِنْدَ كُلِّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ، أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ الْحَقُّ عَاجِزًا أَوْ جَاهِلًا، لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى، وَلَا يُثِيبُ وَلَا يُعَاقِبُ، وَلَا يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يُرْسِلُ رُسُلَهُ إِلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ وَنَوَاحِيهَا، وَلَا يَعْتَنِي بِأَحْوَالِ رَعِيَّتِهِ، بَلْ يَتْرُكُهُمْ سُدًى وَيُخَلِّيهِمْ هَمَلًا، وَهَذَا يَقْدَحُ فِي مُلْكِ آحَادِ مُلُوكِ الْبَشَرِ وَلَا يَلِيقُ بِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ نِسْبَةُ الْمَلِكِ الْحَقِّ الْمُبِينِ إِلَيْهِ؟ وَإِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ حَالَهُ مِنْ مَبْدَأِ كَوْنِهِ نُطْفَةً إِلَى حِينِ كَمَالِهِ وَاسْتِوَائِهِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَنْ عُنِيَ بِهِ هَذِهِ الْعِنَايَةَ، وَنَقَلَهُ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَصَرَّفَهُ فِي هَذِهِ الْأَطْوَارِ، لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُهْمِلَهُ وَيَتْرُكَهُ سُدًى، لَا يَأْمُرُهُ وَلَا يَنْهَاهُ وَلَا يُعَرِّفُهُ بِحُقُوقِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يُثِيبُهُ وَلَا يُعَاقِبُهُ، وَلَوْ تَأَمَّلَ الْعَبْدُ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَكَانَ كُلُّ مَا يُبْصِرُهُ وَمَا لَا يُبْصِرُهُ دَلِيلًا لَهُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ إِيمَانِ الْقُرْآنِ عِنْدَ قَوْلِهِ: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [سُورَةُ الْحَاقَّةِ: 38 - 40] . وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [سُورَةُ الذَّارِيَاتِ: 21] . وَأَنَّ الْإِنْسَانَ دَلِيلُ نَفْسِهِ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ كَمَالِهِ. فَقَدْ بَانَ أَنَّ الْمُضَيِّعَ مَغْرُورٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: تَقْدِيرِ تَصْدِيقِهِ وَيَقِينِهِ، وَتَقْدِيرِ تَكْذِيبِهِ وَشَكِّهِ. كَيْفَ يَجْتَمِعُ الْيَقِينُ بِالْمَعَادِ، وَالتَّخَلُّفُ عَنِ الْعَمَلِ؟ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَجْتَمِعُ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ بِالْمَعَادِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَيَتَخَلَّفُ الْعَمَلُ؟ وَهَلْ فِي الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ غَدًا إِلَى بَيْنِ يَدَيْ بَعْضِ الْمُلُوكِ لِيُعَاقِبَهُ أَشَدَّ عُقُوبَةٍ، أَوْ يُكْرِمَهُ أَتَمَّ كَرَامَةٍ، وَيَبِيتُ سَاهِيًا غَافِلًا لَا يَتَذَكَّرُ مَوْقِفَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ، وَلَا يَسْتَعِدُّ لَهُ، وَلَا يَأْخُذُ لَهُ أُهْبَتَهُ. قِيلَ: هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ سُؤَالٌ صَحِيحٌ وَارِدٌ عَلَى أَكْثَرِ هَذَا الْخَلْقِ، فَاجْتِمَاعُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ وَهَذَا التَّخَلُّفُ لَهُ عِدَّةُ أَسْبَابٍ: أَحَدُهَا: ضَعْفُ الْعِلْمِ، وَنُقْصَانُ الْيَقِينِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَفَاوَتُ، فَقَوْلُهُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ وَأَبْطَلِهَا. وَقَدْ سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى عِيَانًا بَعْدَ عِلْمِهِ بِقُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَى ذَلِكَ، لِيَزْدَادَ طُمَأْنِينَةً، وَيَصِيرَ الْمَعْلُومُ غَيْبًا شَهَادَةً. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ" . فَإِذَا اجْتَمَعَ إِلَى ضَعْفِ الْعِلْمِ عَدَمُ اسْتِحْضَارِهِ، أَوْ غَيْبَتُهُ عَنِ الْقَلْبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ أَوْ أَكْثَرِهَا لِاشْتِغَالِهِ بِمَا يُضَادُّهُ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ تَقَاضِي الطَّبْعِ، وَغَلَبَاتُ الْهَوَى، وَاسْتِيلَاءُ الشَّهْوَةِ، وَتَسْوِيلُ النَّفْسِ، وَغُرُورُ الشَّيْطَانِ، وَاسْتِبْطَاءُ الْوَعْدِ، وَطُولُ الْأَمَلِ، وَرَقْدَةُ الْغَفْلَةِ، وَحُبُّ الْعَاجِلَةِ، وَرُخَصُ التَّأْوِيلِ وَإِلْفُ الْعَوَائِدِ، فَهُنَاكَ لَا يُمْسِكُ الْإِيمَانَ إِلَّا الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، وَبِهَذَا السَّبَبِ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْقَلْبِ. وَجِمَاعُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَرْجِعُ إِلَى ضَعْفِ الْبَصِيرَةِ وَالصَّبْرِ، وَلِهَذَا مَدَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ، وَجَعَلَهُمْ أَئِمَّةً فِي الدِّينِ، فَقَالَ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السَّجْدَةِ: 24].
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
Google Adsense Privacy Policy | سياسة الخصوصية لـ جوجل ادسنس
^-^ جميع آلمشآركآت آلمكتوبهـ تعبّر عن وجهة نظر صآحبهآ ,, ولا تعبّر بأي شكلـ من آلأشكآل عن وجهة نظر إدآرة آلمنتدى ~