المنسيون في القدس.. فقر مطرد وتهجير مبرمج طوال ٦٠ عاماً

[الديب sat]

سلطت عملية القدس الأخيرة من جديد، الأضواء علي قاطني المدينة المحتلة من الفلسطينيين، كما جاء بالتبعية قرار سلطة الاحتلال بهدم منزل منفذها لتنكأ جرح عرب إسرائيل، بعد نحو ١٠ أيام من قرارها تمديد سريان مفعول «قانون المواطنة» لسنة أخري، والذي لم يلتفت إليه الكثيرون، رغم ما هو معروف عنه كقانون سيئ السمعة، تعتبره جمعيات حقوق الإنسان الإسرائيلية قبل الفلسطينية «عنصرياً» و«عاراً علي دولة إسرائيل» و«شرعنة للتمييز العنصري بحق فلسطينيي ٤٨».

تمديد القانون، للمرة الثامنة منذ صدوره عام ٢٠٠٣، جاء برأي المراقبين ليزيل عمليا جميع الحواجز أمام تثبيته، رغم كل ما يشمله من تمييز صارخ ضد مواطني إسرائيل العرب، وكل من يتضمنه من مساس بحقوق مواطنتهم، بل انتهاك حاد للقانون الأساسي - بند «حرية الإنسان وكرامته» - بحسب الرأي القانوني لقضاة المحكمة العليا الإسرائيلية، الذين أكدوا عدم شرعيته.

كما أن القانون «المؤقت»، الذي تعمل الحكومة الإسرائيلية علي تمديده، لحين صدور قانون «يهودية» الدولة، بحسب الدكتور عبد الله الأشعل، أستاذ القانون الدولي، يقضي تماما علي فكرة «المواطنة»، بتمييزه بين اليهودي والعربي علي أساس الديانة والعرق، ويري الأشعل أن القانون لا يمكن تثبيته قبل إعلان إسرائيل دولة يهودية، كي تكون أحكامه واضحة، لاسيما بشأن الفلسطينيين «الغرباء» الذين يعتبرهم هذا القانون دخلاء و«عظمة داخل اللحمة اليهودية»، إضافة إلي ما يحققه حاليا من تعطيل لطلبات كثيرة يتقدم بها عرب إسرائيل لإعطاء الجنسية لزوجاتهم أو أزواجهم ممن يقيمون في سائر أنحاء الضفة الغربية أو قطاع غزة، فزواج المقدسيين من غيرهم مسموح به، شريطة أن يكون بعيدا عن القدس.

ولاشك أن قراءة أبعاد هذا القانون بمزيد من التمعن تضع مأساة أولئك المنسيين في مكانة لا تقل عن مأساة إخوانهم في الشتات، تضاف إليها اتهامات التخوين والعمالة، رغم كل ما عانوه، ومازالوا، من سياسات إفقار مبرمجة وتهجير وتغريب في قلب الوطن، بعد صمودهم الطويل أمام مؤامرات الاحتلال، التي وصلت بنسبة الفقر بينهم إلي ٦٨ %، مرشحة بقوة للزيادة، وفقًا لإحصاء أعلنته مؤخرا الجبهة الإسلامية - المسيحية للدفاع عن القدس والمقدسات، التي أكدت أن ثلثي المقدسيين باتوا يعيشون تحت خط الفقر، في حين أن نسبة الفقر بين اليهود في المدينة لا تصل إلي ربع هذه النسبة، كما أنها في تناقص، بفعل الدعم الذي يتلقاه المستوطنون من الداخل والخارج، وذلك إضافة إلي سياسة هدم المنازل، التي أدت إلي إحداث أزمة حادة في سوق العقارات العربية، وضاعفت أسعار البيع والإيجار.

وبين معاناة مستمرة منذ أكثر من ٦٠ عاما، وأخري تجاوزت الـ ٤٠، تراوحت ملامح الاستمساك بالأرض لفلسطينيي القدس، التي أتت عليها إسرائيل في مرحلتين (شطرها الغربي ١٩٤٨ والشرقي في يونيو ١٩٦٧)، حيث أبوا مغادرة منازلهم، رغم كل ما مورس تجاههم من محاولات اقتلاع قسرية، بدءًا من مذابح الأربعينيات علي يد «الهاجاناة»، التي شكلت فيما بعد نواة الجيش الإسرائيلي، وصولا إلي ما تنتهجه سلطات الاحتلال الآن من ممارسات قمعية، تهدف إلي إفراغ القدس من قاطنيها العرب.

وما يحدث الآن من قبل الاحتلال بحق من تدعي أنهم «مواطنوها»، من حاملي الهوية الزرقاء، يتجسد بصور شتي، ولا يعتبر «قانون المواطنة» سابق الذكر سوي مجرد حلقة لتقنين ودسترة تلك الممارسات، فبعد أن منحتهم إسرائيل تلك البطاقات عقب ضم القدس الشرقية عام ١٩٦٧ تعاملت معهم علي أنهم مواطنوها، وبالتالي اعتبرت اعتقال أي شخص منهم (يقدرون الآن بنحو ٤٠٠ معتقل في سجونها) «شأناً داخلياً»، تماما كسجنائها الجنائيين، لكنها في واقع الأمر لا تمنحهم ربع حقوقهم، وبطبيعة الحال ترفض اعتبارهم «أسري فلسطينيين»، لتجردهم بذلك من جميع حقوقهم، ومن أي محاولة خارجية لمساعدتهم، تحت غطاء كونهم مواطنين إسرائيليين ينعمون بجميع حرياتهم وهم في حقيقة الأمر منسيون.

أولئك المنسيون هم أحفاد نحو ١٥٠ ألف فلسطيني بقوا في بيوتهم، مقابل حوالي ٧٥٠ ألف فلسطيني رحلوا إبان النكبة، فيما بين عامي ١٩٤٧ و١٩٤٩، غير أنه وبعد احتلال إسرائيل للقدس الشرقية، نزح ما يقارب ٤٠٠ ألف فلسطيني في موجة هجرة ثانية، بعضهم داخليا إلي الضفة والقطاع، وبعضهم إلي الخارج، لكنهم جميعا جُرّدوا من حقوق مواطنتهم (الفلسطينية)، نتيجة قانون الجنسية الإسرائيلي لعام ١٩٥٢، الذي حرمهم من العودة إلي أراضيهم.

ووفقا للقانون نفسه، فإن من نزحوا عن مدنهم وقراهم إلي مناطق مجاورة داخل حدود الخط الأخضر، أو ما اصطلح علي تسميته فيما بعد باسم «أراضي ٤٨»، حصلوا علي «المواطنة الإسرائيلية»، لكنهم منعوا أيضا من العودة إلي منازلهم وأراضيهم الأصلية، التي تناوبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مصادرتها الواحدة تلو الأخري، كانت أشهرها حملة مصادرة ٦٧، التي أعطت خلالها لليهود صلاحية استخدام تلك الأراضي والمباني، حتي بات الفلسطينيون اليوم يملكون أقل من ١٠ % من الأراضي، بعدما كانوا يمتلكون غالبية ٩٠ % قبل ١٩٤٨.

سياسات التهجير أيضا امتدت إلي انتزاع حقهم في «حرية الحركة والتنقل» الذي تنص عليه القوانين والأعراف الدولية، بفعل جدار الفصل العنصري وتأثيره علي حياتهم الاجتماعية وفصله بين الطالب ومدرسته، والموظف ومكان عمله، إضافة إلي فرض ضرائب متعددة تميز بشكل صارخ بين سكان القدس الشرقية والغربية التي يقطنها غالبية عظمي من اليهود، حيث تكاد تنعدم الخدمات في القسم الشرقي من القدس، بخلاف شطرها الغربي، ولعل أبسط أوجه هذا التمييز مثلا عمليات جمع النفايات التي تتباين معدلاتها بشدة بين القسمين، ففي حين يتم جمعها مرتين كل أسبوع في الغربية، بينما تتم إزالتها مرة واحدة في منطقة البلدة القديمة.