|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
المنظورات المستقبلية لوحدة الثقافة العربية
المنظورات المستقبلية لوحدة الثقافة العربية تتسم صورة الثقافة العربية في المجتمع القديم بالبساطة والوضوح، ويبدو أن المجتمع الجاهلي، من البساطة، بحيث لم يكن يشكل سوى إيقاع ثقافي رتيب حتى بزوغ فجر الإسلام. بينما تتعقد مفاهيم الحياة وتتضارب تيارات الثقافة في العصر العباسي، بسبب تطور البنية الاجتماعية باتجاه المدنية، وتكيّفها لتقبّل الفلسفات العالمية وآدابها وثقافاتها، كاليونانية والهندية والفارسية.. وبسبب اتساع رقعة الدولة وتعدّد قومياتها وثقافات شعوبها قبل كل شيء. وربما كانت أعظم ثمار الحضارة العربية الإسلامية قد نضجت في ظل مناخات من الحرية الفكرية التي كانت تتجلّى في هذه الفترة أو تلك. فتشهد الثقافة العربية -وهي ثقافة منتصرين- انفتاحاً ملموساً، ترجم نفسه عبر العديد من الكتب المنقولة إلى العربية، التي حملت ثمار أهم ثقافات العصر آنذاك. وكانت كل تلك الأفكار والموروثات الثقافية تتلاقح مع الثقافة العربية المتحدّرة من أصولها الجاهلية، وتقدم المواليد الجدد في كل مرحلة. وفي كل محطّة، كانت تثور مناقشات ومساجلات حول هذه الأطروحة أو تلك، ليشكل هذا الحوار في نهاية المطاف، مركّباً جديداً سرعان ما يتحول إلى النقيض المنتصر للسائد في الغالب، رغم محاربته النسبية من قبل أجهزة الحكم تارة، أو قبوله على استحياء أول الأمر، ثم الإيقاع بأتباعه وتصفيتهم، بالاستناد، دائماً، إلى النص الإلهي، الذي يتم تفسيره بانتقائية مناسبة. ولقد أوقفت الحقبة العثمانية وماسبقها مدّ الثقافة العربية خلال قرون. ورغم العداء القائم بين أوروبا البرجوازية والامبراطورية العثمانية الإقطاعية، كنمطين من أنماط الإنتاج، وشكلين للإنتاج ينقض أحدهما الآخر تناحرياً، إلاّ أن أوروبا تنبّهت للخطورة التي بدأ محمد علي باشا -على الصعيد العربي- يشكلها على الامبراطورية العثمانية البالية، للحيلولة دون قدوم المولود الجديد الكامن في أحشاء تلك الامبراطورية المتعفنة. ولهذا جاء قرار بريطانيا عام 1840، بإيقاف هجوم محمد علي على الباب العالي!. وهو انتباه مبكر لخطورة الأساس المادي الذي كان محمد علي يشيده من أجل مصر عظيمة. رغم طموح بريطانيا البرجوازية إلى تحطيم الامبراطورية العثمانية كنموذج للدولة الإقطاعية. ومع الحربين، بدأت أوروبا تصدّر أوربيّتها إلى الشعوب والأمم بالقوة، فقد فرضت - كنظام منتصر- أسلحتها وقوانينها ولغتها وتجارتها وثقافتها في أشدّ صور الهيمنة، وأسرعها بالقياس إلى ماسبق ذلك من عمليات التاريخ. كانت شعوب العالم الثالث والعالم العربي قد منيت بهزيمة. وفيما كانت في أواخر العهد العثماني تتفَلَّتُ باتجاه التحرّر السياسي والثقافي، كانت أوروبا تستعدّ لإعادة اقتسام العالم مجدداً، وتقاسم إرث "الرجل المريض". لقد هُزمت المحاولة الجادة الأولى للأمة العربية، وتوقف التطور "المستقل" لثقافتها. ومن الطبيعي أن يجد نظام الدولة الشرقي -بإماراته وممالكه ودوله المتخلفة- نفسه أمام سلسلة من الضرورات التي ينبغي تأمينها ليستمر في الحياة. فسرعان مايفتح أسواقه للتجارة الأوروبية، ويطرح خاماته، ويسنّ القوانين التي تنظم تلك الروابط والمصالح، ثم ينظّم الجيوش وقوات الأمن لحماية العمليات الاجتماعية الاقتصادية الجديدة مستعيناً بالخبير. وبعدها يصبح الجندي تابعاً للمدرب الأجنبي، ويخضع لنظام تسليحه وقيادته وتقنياته العسكرية. كما يتبع التاجر والسياسي المحليّ للدبلوماسي الأجنبي الغربي. ولا يكون بوسع الحكومات المحلية، في هذه المعادلة غير المتكافئة، إلاّ الخضوع لمتطلبات القيادة الفعلية لعمليات التغيير الاجتماعي، الذي يشمل كل الميادين، بما في ذلك الثقافة التي يجري التركيز عليها لتسويغ كل مايجري. وهنا، تشعر القوى الاجتماعية المحافظة بأن الأساس التقليدي الذي يقوم عليه المجتمع، يتعرّض للخطر بسرعة قياسية، وبفعل فاعل، وليس بفعل تطور طبيعي، لأن كل تلك التبدلات تجري في الجيل الواحد، ويصبح الصدام أكثر حدّة، كلما احتمى المحافظون بالموروث القدسي، الذي يمدّهم بالمرجعية الثقافية لتحريك الشعب. وتبدو ظاهرة "الأدباء" في الصين و"العلماء" في الإسلام، أمثلةً على ذلك الصدام الحاد بين حضارتين وثقافتين. فيما تخوض جماهير الشعب عامة، المعركة الفعلية، ولكن بقيادة العلماء أو الأدباء في هذا الموقع التاريخي. وتحاول البرجوازية الوافدة على صيغة فتوحات صارمة، أن تؤجل هذا الصدام، وتفكك المنظومة الدفاعية للخصم، بالمداهنة والمراوغة والخداع والممالأة أحياناً لقيادة قوى المقاومة. كما فعل "بونابرت" عندما دخل مصر، ووضع العمامة على رأسه، وكَنَّى نفسه بكنى إسلامية فاطمأنّ العلماء، وعادوا من الصعيد إلى القاهرة، غير أن الأمر لم يكن أكثر من لعبة طفولية وخدعة مؤقتة، إذ سرعان ما انفجرت حركة المقاومة الثقافية، ممثلة بعلماء الدين وتلامذتهم، وجماهير العامة، لأن الصراع على الأرض تجلّى بأبعاده الواضحة الصارخة، على شكلٍ تناحري بين ثقافتين. وكان حجمه أكبر من تلك اللعبة. وقد تستطيع الشعوب طرد جيوش الثقافة الغازية بأدواتها التقليدية، كما حصل في الجزائر لأسباب موضوعية تتعلق بالخصم نفسه، أو بتركيبة العالم في اللقطة التاريخية المحددة، أو بزخم المقاومة المحلية، وقد تطرده بأدوات أخرى كما حصل في الشطر الجنوبي من اليمن وسوريا، ولكن ساحة المعركة تظلّ شاهداً على نتائج ذلك الامتزاج والتصادم. إذ تُخلِّف المعركة - التي قد تستمر عقوداً- وراءها مركباً جديداً، وتبرز قوى اجتماعية جديدة لم تكن بالحسبان. لا بل أكثر من ذلك، فإن بعض عناصر ثقافة الخصم -رغم هزيمته عسكرياً ورحيله- تفرض نفسها بسبب اقتناع المدافعين بجدواها... وهكذا تنشأ على أثر هذا التصادم الثقافي، مؤسسات حكومية وشعبية على شكل وزارات تخصّصية، وهيئات تمثل الشعب، ونظم وقوانين وأحزاب تنشأ من باب الضرورة التاريخية، لتنظيم القوى الاجتماعية، التي خاضت معركة الاستقلال، وتستعد لخوض معركة التحرر الوطني عبر الصراع الاجتماعي. وهذا مايسمى بالتجديدات التي تشكل في مجموعها المنظومة الثقافية الجديدة لما بعد التصادم. المشكلة تكمن في الاختلاف القائم بين قوى الثقافة المدافعة. بين الردّ السلفي والرد العلماني، كمرجعيات فكرية رئيسة في المجتمع. وكلاهما يظل قاصراً في الغالب في الدفاع عن ثقافته القومية. وفيما يعاني التيار العلماني من الانتقائية والنظرة الرومانسية في كثير من الحالات. إذ يتعامل مع الثقافة كتعامله مع السياسة والنضال القومي، معتمداً على القوى الشعبية الرافدة في مهمة التصدي للأجنبي، فإن السلفي يعتقد أن المسألة لا تعدو أزمة أخلاقية، ولا علاقة لها بالتطور التكنولوجي. وهكذا يُطرح الإصلاحُ الأخلاقي على شكل دعوة للعودة إلى صفات الآباء والأجداد. ويُعبَّرُ عنها بمفردات متعدّدة: الأصالة، التراث، المجد الغابر، العودة إلى الجذور.. وما إلى ذلك.. ويضيع الهدف.. وتضيع فرص التصدي بين المحافظين الداعين "للأصالة" والثوريين الداعين إلى التجديد في ميادين العلم والتقنية. ويندر أن تتخلص أمة من داء فُصَامها، بحيث تستفيد من الجذور على الصعيد التربوي والأخلاقي دون الفكري، وتأخذ بالتجديد في ميادين العلم والتطوير التقني كاليابان، ذلك أن سطوة الموروث القدسي، تحول غالباً دون فصل الدين عن الدولة. ويبدو المثقف الليبرالي، الذي يعزي هزيمة مجتمعه إلى الاستبداد الشرقي وليس لمسأله التطور والتخلف، أكثر سذاجة. إذ لم يلاحظ تلك الجدلية القائمة بين الديمقراطية الخالصة كنقيض للاستبداد من جهة. وبين التطور التقني وحرية الاتجار والتسويق والابتكار والمضاربة والصناعة والمزاحمة. وكأن كل واحدة منها تتم بمعزل عن الأخرى. وليس ثمة علاقة ترابطية بين الاثنتين!! وربما يصل الاقتناع بالفصل بينهما إلى حدّ التدمير المقصود لتقنيات المجتمع. في محاولة للإثبات العكسي للقانون الموضوعي. كما فعل "الثوري" بول بوت الذي أوقف الماكينات في كمبوديا، ودعا السكان قسراً إلى الاعتماد على اليد التي تعمل، وليس على الآلة، فكان ضحية تلك السياسات ثلث سكان البلاد، من الذين قاوموا العودة ببلادهم إلى الوراء. إن المعركة الثقافية التي تخوضها الشعوب بصدد الدفاع عن ثقافتها القومية، لا تتكلّل بالنجاح عموماً. بمعزل عن تدعيمها بالتقنيات العالية المحلية. التي تربط قوى الأمة بعجلة الإنتاج وتُبرز دور القوى الاجتماعية في العملية النهضوية، حيث يتلازم البناء التحتي للمجتمع، مع البناء الفوقي الذي يشكل الأساس الحقوقي للعلاقات الاجتماعية. والغطاء الإيديولوجي له، بعيداً عن مزاعم الشمولية، التي تؤدي مجدداً إلى الاستبداد السياسي الشرقي أو الغربي.. لا يهم، وتحاول نسف العلاقة الجدلية الطبيعية بين التطور التقني المتقدم، والشكل السياسي الذي ينبغي أن يرافقه في المجتمع. وهو الديمقراطية في أبشع محاولة لكسر القانون الديالكتيكي. إن أشدّ النظم وطنية وقومية وحتى ديمقراطية، لا تستطيع بغير القوى التقنية أن تصون استقلالها السياسي، وتدافع عن ثقافتها القومية بسبب ازدياد حاجاتها المتبادلة مع المجتمعات الأخرى.. وحاجتها للتعامل معها كأعضاء في الأسرة الدولية. وقد تضطر أن تدفع شيئاً من تجربتها الديمقراطية لصالح العلاقات الدولية بسبب وقوفها في موقع المدافع. وربما تدفع بعضاَ من مواقفها المبدئية وتتراجع عن ثوابتها! إن القيادات الثورية في العالم الثالث لا تزال تصارع تلك الحقيقة المرّة، في غياب المعادل الموضوعي لرأس النظام الرأسمالي في العالم. ويبدو الأمر أكثر مأساوية في إعلان الماركسي فيدل كاسترو، أن كوبا قد درّبت مئتي ألف ثور كمصادر بديلة للطاقة، وهي تدرّب الآن ثلاثماية ألف ثور أخرى.. فيما تغرق "هافانا" في الظلام لست ساعات يومياً. في زمن يتطلّب فيه النظام الجديد في العالم أربعاً وعشرين ساعة إضاءةً. وأمام الحاجة الكوبية للتكنولوجيا، والهجوم الثقافي الأميركي الموجّه إلى عقل وثقافة الشعب الكوبي المسيّس. يأتي المنطق السياسي المسطح لجوهر القضية، معبّراً عنه على شكل تصريح للرئيس الأميركي بوش: "سأكون أول رئيس أميركي يطأ أرض كوبا". فإذا بالردّ الكوبي على لسان كاسترو: "على الرحب والسعة. أرض كوبا مفتوحة للرئيس المنتخب من شعب مجاور، على قاعدة الصداقة وحسن الجوار"... لكن المعركة على الأرض لا تعرف التعمية والمداورة، فقد حملت الأخبار منذ أيام نبأ نزول الرئيس الكوبي إلى أحد الملاهي الليلية، ومشاركة روّاد الملهى الرقص كمحاولة لتسويق الجزيرة سياحياً. وذلك إيقاعٌ ثقافي لا عهد لنا به من ثوري كبير مثل كاسترو إلاّ أن كوبا لا تستطيع إلاّ أن تدفع ثمن تخلّفها التقني، ومن ثقافة شعبها الصلب. وتلك خطوات أولى، تؤكد أن شعار المؤتمر الأخير للحزب "الاشتراكية أو الموت" ليس نهائياً، أمام لغة الأرقام الواقعية ولابد من التراجع عن الثوابت! إن أول مهمات المثقف القومي المعاصر في العالم الثالث، وخصوصاً في العالم العربي، أن يناضل اليوم باتجاهين: الأول مع من يحيطون به من صنّاع الثقافة والرأي العام لإقناعهم بالرأي الآخر، والتراجع عن توكيد شموليتهم. والثاني ضد النُظُم القطرية لدفعها باتجاه الوحدة عبر الخيار الديمقراطي، لإعطاء التصدي زخماً كبيراً، ولمنع الحكام من توظيف الطاقات الثقافية الوطنية المتوفرة في النظام القطري، ضد الآخر.. ويبدو أن مستقبل الثقافة العربية مرهون بخلاصها من الاغتراب، الذي يُعتبر أهم الملامح الأساسية البارزة فيها اليوم بمعانيه المتعدّدة، وأولها النزعة العمياء إلى الغرب. وتأتي هذه النزعة عادة في أعقاب الهزائم الكبرى والوصول إلى حالة اليأس بعد الهزيمة، إذ يثبت للمثقف العربي في أعقاب الهزيمة أنه لا يزال يعيش في مجتمع طفل، فيما ينتصب الغرب أمامه عملاقاً مكتملاً تجاوز بفكره وقواه المادّية والتقنية سنّ الرشد. ويكون الاغتراب على شكل استلاب مستسلم أعمى، ويصبح نوعاً من "أن المرء يصير غيره، وأن يزدوج ويفقد وحدته النفسية". (عبد الله العروي، أزمة المثقفين العرب. المؤسسة العربية للدراسات والنشر-ص 153). وهناك نوع آخر من الاغتراب "المقنّع" كما يسميه العروي في الثقافة العربية المعاصرة، وهو محاولة تعميم العصور الوسطى، الذي يتجلّى على شكل تقديس اللغة وتعميم آثار الماضي تحت شعار بعثه وإحيائه من أجل المواجهة، حيث ينتهي هذا "البعث" بالحفاظ على فكر العصر الوسيط حيّاً، في زمنٍ تكون فيه الثقافة العربية أحوجُ إلى التفتّحُ الواثق من أي شيء آخر. وتبدو مهمة محاورة هذا التيار السلفي، صعبة للغاية في أكثر الأحيان. إذ سرعان مايلجأ إلى النصّ الإلهي أمام أية محاولة جادّة لمحاورته أو مقاومته أو التوازن معه. حيث تستثار عدوانيته، ويستمدّ من النص الإلّهي مشروعية التكفير للآخر، بالطرق المناسبة.لابل يتسع النص الإلهي بين يديه، حتى ليشمل اللغة العربية والوقائع التاريخية وسير الأبطال وجهود علماء اللغة الروّاد.. ويتسع هامش المقدسات والمحرمات على حساب المساحة المخصصة للصفحة المفتوحة للحوار الفكري والثقافي، مما يؤدي إلى توقف الحوار، وانقطاع أي تواصل، والإلتزام بمنطق الخندقة. وغالباً مايقف النظام القطري العربي إلى جانب هذا التيار الثقافي السلفي، الذي لا يشكل خطورة وتهديداً جادّين له في ظرف ما. إضافة إلى أنه يدخل أحياناً ضمن أدوات النظام القطري المعادي للحرية الفكرية في مواجهة التيارات الثقافية العلمانية. ويستحوذ على الشارع العام. حتى إذا تحوّل هذا التيّار إلى ميدان السياسة. وسعى للتعبير عن نفسه ميدانياً. اصطدم بنظام الحكم القطري الذي يسعى لاستكمال مؤسساته العصرية. وتصاعدت لهجة الحوار الحكومي مع هذا التيار، إلى حدّ يصبح فيه صوت الرصاص مسموعاً.. وهكذا تشهد النظم، هي الأخرى، حالة من الفصام، أشبه ماتكون بالاغتراب الرسمي. إن ظاهرة الاغتراب التي يعانيها المثقف العربي، مخدوعاً أو مختاراً، ستظلّ ملازمة له طالما ظلّت العوامل الإرهابية المعيقة لانطلاقته الجريئة العلمية الديمقراطية الحرّة قائمة. وسيظلّ يشعر أنه غير نفسه، وهو يكتم تارة، ويمالئ تارة، ويراوغ تارة في مواجهة مصادر التهديد لحريته الفكرية. سواء منها ماكان مستمداً من النص الإلهي الذي يتسع ويضيق. ويكيّف ويوظّف بحسب درجات قوة من يتخذونه سلاحاً في وجه التيارات الفكرية والثقافية الأخرى، وبحسب فرص الاستعمال. وعلى الصعيد الآخر، فإن اغتراباً أشدّ يعيشه الموقع السلفي بصورة مؤسّسيه، وهو يرى منظومته الفكرية ومفرداتها تتحطم، واحدةً تلو الأخرى، على صخرة واقع نظام اجتماعي لا يستطيع إلاّ أن يعيش فيه، ويتعامل مع مفرداته. مما يرفع باستمرار من درجة جلد الذات!.. إذ، في أي مناخٍ يمكن أن يُسمع صوتُ السلفي وهو يذكر الآخرين بنخوة المعتصم، ومواقف صلاح الدين، وسير الناس الصالحين، وخراج عمر بن عبد العزيز، وهو يرى بعينه التحولات الاجتماعية المتسارعة والصاعقة، تحول دون وصول مادته الفكرية وطروحاته إلى الآخرين لما تنطوي عليه من مثل عليا تتناقض مع الواقع؟! وكيف يمكن أن يكيّف السلفي أفكاره لتصبح مقبولة بما هي عليه، في تشكيل اجتماعي اقتصادي لا يمتُّ في طبيعته بصلة، إلى تلك المنظومة الموروثة التي يدعو إليها. والتي كانت تشكل عطاءً إيديولوجياً مناسباً، لتركيب اجتماعي محدد عبر التاريخ؟ أليس هذا اغتراباً من نوع محزن؟ كيف يمكن إذن الخلاص من هذا الاغتراب، الذي ابتليت به الثقافة العربية في كافة المواقع؟ وكيف يمكن إعطاء الثقافة العربية الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح نحو الثبات والمواجهة؟ الأوروبي لايشعر عموماً بهذا النوع من الاغتراب في ثقافته، لأن ثمة تطابقاً عاماً بين نمط حياته العام وتعامله مع الوقائع المحيطة به، وبين ثقافته ومنظومته الفكرية التي أفضى إليها البناء الاجتماعي المتحرك، بمعزل عن سطوة الموروث السلفي، أو المؤسسة الإلهية سواء من مجتمعه أو من الكنيسة أو الأدبيات المسيحية التي لم تعد تقف رادعاً، ولا تشكّل مصدر تهديد دائم لثقافته، منذ تم فصل الدين عن الدولة. المشكلة تكمن في ذلك الترابط الديالكتيكي بين البناء الفوقي والمنظومة الحقوقية للمجتمع، التي تشكل في مجموعها ثقافة الفرد، وفكره، وقيمه الاجتماعية، وبين البناء الاجتماعي الذي تقوم عليه العمليات الثقافية، فلعصر الرق منظومته الحقوقية، وثقافته التي لا تناسب البناء الاجتماعي الذي أكدّ صيغته على شكل إقطاع. وكذلك المجتمع البرجوازي الذي تطورت فيه الصناعة وتغيرت أنماط العمل والعلاقات الاجتماعية ومواقع رأس المال، فأفضت إلى منظومة حقوقية (ثقافية) مناسبة في مجموعها لذلك البناء الاجتماعي..والعلاقة إذن جدلية ترابطية بين الثقافة ودرجة تطور البناء الاجتماعي، فيما يمكن أن نسميه الحتمية الجدلية، والضرورة التاريخية.. والسؤال الآن: هل يمكن كسر هذا القانون الموضوعي، وفك تلك الجدلية والترابطية القائمة بين الثقافة والبناء الاجتماعي. وهذا هو جوهر أزمة ثقافتنا العربية؟...هل نُسلّم بأن ثقافتنا اليوم تعبر حالة قدريّة. بعيداً عن الخطب التشجيعية وخداع الذات؟ ولا يمكن لها إلاّ أن تمرّ في هذا المسار، خلال الظرف التاريخي الراهن؟ وننتظر التقدم التقني والاجتماعي اللذين سيفضيان لنا إلى ثقافة جديدة علمية حرّة ديمقراطية، تتعايش مع البناء الاجتماعي المتقدم خارج أُطر الخوف والمحاذير والإرهاب الداخلي من جهة السلف أو الخلف؟؟.. وإذا عمّمنا هذه الحقيقة العلمية بسطوعها الديالكتيكي على مجمل الأشياء، فلماذا نناضل من أجل أهداف كبرى في شتّى مجالات الحياة. ونفني طاقاتنا بصدد التعديل في القانون الموضوعي، أو زحزحته وحرفه عن إحداثياته التاريخية؟.. حيث تتوالى الهزائم المرة على مختلف أصعدة الطموح التقدمي العربي للفرد والجماعات. وفي أعقاب كل هزيمة ننتهي إلى اليأس، ويأتي الخصم ليقطف ثمار عقلانيتنا العسكرية والسياسية والثقافية، ويسجل نقاط استسلام إضافية علينا، ويؤجل تقدمنا في المرحلة التاريخية الواحدة الموحّدة أكثر من مرّة.. وتلك هي المصيبة.. إذ أننا دائماً نسعى لكسر القانون الموضوعي بكامله، ولا نقبل بالانتصارات النسبية... المسألة ليست بعيدة عن القدرية الحتمية. بمعنى أنه ليس من السهل أن نوحد الثقافة المنشودة (ثقافة علمية ديمقراطية حرّة)، ونقيمها على أساس مادي لا يستطيع بطبيعة تكوينه التاريخي، أن تكون مثل تلك الثقافة خياراً له.. بمعنى أن الثقافة العلمية الديمقراطية الحرة المتضمّنة المحتوى القومي العربي الإنساني. تأتي عادة في سياق تاريخي معيّن، أبرزُ سماته تلك الدرجة العالية من التطور التقني، والتقدم الاجتماعي، الذي يخلق بدوره علاقات تصبح الثقافة المذكورة لزوماً له!.. وهذا مالم يتحقق بعد. سواء أفنى العلمانيون الانتقائيون أنفسهم في النضال من أجل تحقيق ذلك الطموح. أم انفجر السلفيون غيظاً. فإن هذه الطموحات لا تتم إلاّ في رؤوسهم وخيالاتهم وحسب، في الظرف الراهن. إذ أن إمكانات القفز عن الحواجز الرئيسة الضخمة في حركة التاريخ غير واردة. وحرق المراحل من المستحيل. والمتاح فقط، اللعب في هامش المرحلة الواحدة واستثمار الفرص السانحة. إن البناء الاجتماعي العربي في العصر الراهن، ليس بمقدوره أن يفضي إلى مثل تلك الثقافة، ولا يستطيع أن يقدّم ثقافة بديلة جديدة وصاعقة كما ينبغي، لأن الأمر بحاجة إلى ثورة.. ثورة اجتماعية اقتصادية لا تاريخ محدّد لها. ولا يمكن الاحتفال بذكرى انطلاقتها. فالثورة مجموعة من العمليات الكميّة والكيفية التي تتراكم على مدى زمني لا محدود. ويُسهم فيها الصُّناع والعلماء والمثقفون وقوى الشعب. إذ كل مايمكن أن يحتفل بذكرى ولادته أو انتصاره -علمياً وعملياً- هو انقلاب وليس ثورة.. ومهما اتبع قادته فرصة اقتناصهم للحكم من إصلاحات اجتماعية أو طبقية تنعكس على ثقافة الفرد والمجتمع، ومهما زعم من امتلاكه لفلسفة شمولية محكمة، فإنه سيسقط وتتهشم أضلاعه لدى أية قفزة نوعية لا تتناسب والبناء الاجتماعي الذي يتحرك النظام السياسي عليه، ويقود عمليات التغيير فيه، وستنجح العمليات الجزئية المعقولة والمسموح بها تاريخياً وموضوعياً في المرحلة الواحدة.. وبقدر مايكون واقعياً في قيادة عمليات التغيير الاجتماعي- انطلاقاً من إدراكه لموقعه الحقيقي في سياق التكوين التاريخي -بقدر مايكون على استعداد للحياة، وإطالة عمره كنظام اجتماعي ومنظومة فلسفية، وهذا الفهم هو الذي يميّز ماركسية ماركس، التي عبّر عنها من خلال فرحه التاريخي "بكومونة باريس" الإرهاص الطليعي الذي جاء بفضل درجة تنظيم القوى الثورية، أكثر من قدومه في سياق التطور الموضوعي للمجتمع. ولهذا كان ماركس متأكداً من هزيمته، وبين ماركسية لينين الذي اقتنص الفرصة التاريخية لتصدّع بلاده واستحوذ على السلطة في اللحظة التاريخية الضائعة! ولأن التجربة عظيمة في مضمونها الإنساني منذ انفجارها، عمّرت سبعين سنة، ثم هُزمت.. هُزمت فعلاً... ولا ضرورة للتفكير كثيراً بالأسباب خارج الفهم التاريخي والإصغاء للدفاعات التي يسوقها الماركسيون الكلاسيكيون اليوم لتحليل الهزيمة على طريقة: أسباب داخلية، وأسباب خارجية.. وما إلى ذلك.. إذ باختصار: الهزيمة تاريخية، وانهيار التجربة قانون موضوعي، وحتميةُ "قدّريةٌ" ناتجةٌ في الأساس عن خلل علمي كبير، وهو الاعتماد على "العامل الذاتي" أي درجة التنظيم العالية لقوى التغيير الاجتماعي الطليعية التي قادها لينين، وما انفك يرّدد، "أعطني قبضة من المناضلين، وسأقلب لك روسيا"، إلى أن آلت السلطة إليه.. وكان يتبع ذلك الاستحواذ التاريخي على السلطة بمزيد من التفصيل في شرح وتحليل نضوج الظرف الموضوعي، الذي أثبتت التجربة أنه لم يكن ناضجاً على مستوى التركيبة البشرية، ومعادلة العالم . ذلك الظرف وتلك المعادلة التي لم تغب عن بال ماركس في أتفه اللحظات التاريخية، والتي كان متأكداً من أنها هي الأساس.. فها هو يقف أمام تصميم جديد لقطار يعمل بالكهرباء، فيلخّص جوهر فلسفته قائلاً: "الويل للرأسمالية.. لقد قدم الجنرال الكهرباء". إذن، كان ماركس يقيس التطور الكيفي للمجتمع من خلال التقدم العلمي والتقني، وآثاره على المجتمع، عبر علاقات الإنتاج الجديدة، كأرضية مادية يقوم عليها البناء الروحي للأمم. ثم يراقب بعدها العامل الذاتي.. مرّة ثانية، المشكلة تكمن في رغائب المناضل العربي ورومانسيته، إسلامياً كان أم علمانياً أم قومياً، في أن يصوغ مشروعه الثقافي المنشود بالرغائب والحلم كاملاً غير منقوص، ويتجاهل جدلية هذا المشروع مع الأرضية المادية التي يقوم عليها.. والنتيجة دائماً، أن الاغتراب يصبح معمّماً، والفواجع تتوالى. إذن يمكن النضال والعمل والإبداع فقط في القفز عن الحواجز التفصيلية في المرحلة الواحدة. ويستحيل القفز عن الحواجز التاريخية الموضوعية القائمة بين مراحل التاريخ الكبرى.. وربما تقدم لنا السياسة الدولية شواهد هامة وملموسة، لحكام عقلانيين وواقعيين استطاعوا تطوير مجتمعهم في العالم الثالث على الصعيد المادي والروحي الثقافي، وأحسنوا إدارة التغيير الاجتماعي الهادئ في مجتمعاتهم باتجاه الحضارة المدنية.. وربما يكونون قد جنّبوا "بيمينيتهم" الواقعية شعوبهم وأممهم المزيد من العبور في التجارب الصعبة، والإحباطات المريرة، التي كان من الممكن أن يجرّها عليهم "ثوريون" وطنيون أو قوميون أو يساريون أو إسلاميون، فيما لو استحوذوا على السلطة في بلادهم، والأمثلة كثيرة في العالم، وأقطارنا العربية ميدان خصبٌ للشواهد في هذا المقام، وآن لنا أن نسمّي الظواهر بأسمائها الحقيقية، والتوقف عن خداع الذات واستمراء الاغتراب والتعمية. إن إيماننا العلمي بأنه من غير تقنية لن نصل إلى موقع الفاعل في الحياة الدولية، ولن نصبح قوة عظمى حتى بوحدتنا العربية وسيطرتنا على ثرواتنا المهمّة، ولن يكون لنا ثقافتنا الفّذة، رغم أن مثل تلك الوحدة، ومثل ذلك النفوذ الاقتصادي سيعزّز الأساس الذي نتحرك عليه باتجاه المستقبل. ولكنه لن يكون الحلّ السحري الذي ننتظر منه أن يريحنا من كل مشاكلنا، فثمة أمم أكبر من أمتنا، وثرواتها غير قليلة، ومع ذلك لا تزال شاهداً كما نحن الآن، على أن القوى العلمية والتقنية في مجال الصناعات السلمية أولاً، هي الأساس الذي تنحلّ عليه كل مشكلاتنا، بما فيها المشكلة الثقافية. وبعد، فهل ينبغي أن ننتظر الانفجار العلمي في بلادنا، وأن يتوقف التطور العلمي في بلاد الآخرين، لنلحق بهم، ويصبح لدينا ثقافتنا الفذّة. ونقعد مكتوفي الأيدي بانتظار السيد التاريخ، والتطور، ليحسم في هذه المسألة؟ حيث في هذا السياق، يصبح النضال الفكري غير مبرر!... الجواب بالطبع لا... لأننا إذا تراجعنا عن طموحنا اللاعقلاني واللاموضوعي، سينصّب تفكيرنا في النضال ضمن المرحلة التاريخية الواحدة، شريطة أن نشرع في التأسيس للمجتمع الديمقراطي بكل مافي الكلمة من معنى.. وكلما كانت ديمقراطيتنا غير منقوصة وبلا قيود، كلما أتيحت الفرصة للظواهر أن تترجم نفسها، وتختبر إمكاناتها للحياة على أرض الواقع، أو الموت بحلول البدائل مكانها. بما في ذلك وحدتنا العربية. وثقافتنا، وتصوراتنا لمستقبلنا العربي. إن الديمقراطية والحرية في التفكير بعيداً عن التهديد بالنص الإلهي، الذي يتسع ويضيق بفعل فاعل، وعن الاتهام العلماني الانتقائي للسلفي بالرجعية والتخلّف، كفيلتان بنزع فتيل العدائية القائم بين التيارين الثقافيين، اللذين ما انفكّا يدفعان بعضهما بعضاً إلى مزيد من الإيغال والتطرّف، بما لا يخدم أياً منهما. وبما يدفع بكليهما إلى الغلط!. وفي ظروف التعايش السلمي الديمقراطي بين التيارين، ووقف التكفير والاتهامية، يصبح بمقدور التيار السلفي الذي يعتمد على الموروث الثقافي، أن يستفيد من أدوات العلماني في امتحان موروثه وفحصه وفهمه. كما يتوفّر بين يدي التيار العلماني في الثقافة العربية، المزيد من الموروثات التي يمكن أن يقيم عليها أدلّته وبراهينه الثقافية، بجهود سلفية واعية. وستختفي أولاً بأول مشاعر الاغتراب في ثقافتنا العربية المعاصرة، في الموقعين معاً.. إننا نواجه اليوم واحدة من أشدّ الهجمات التاريخية التي ستسعى لإيقافنا ودفعنا إلى الوراء. في هذا الموقع من سياق تاريخنا كأمة مطموع بثرواتها وطاقاتها. وستكون ثقافتنا مستهدفةٌ وسيظل من الممكن أن يدخلوا إلى عقلنا العربي من نقاط الضعف والثغرات.. وأحُد أهمِّ تلك الثغرات، انعدام الروح الديمقراطية في ثقافتنا وفكرنا العربي.. |
9/2/2009, 09:27 PM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
مـهـند س مـاسـي
|
رد: المنظورات المستقبلية لوحدة الثقافة العربية
مشكوووووووووووووووووووور
|
||||
5/7/2011, 07:17 AM | رقم المشاركة : ( 5 ) | ||||
مـهـند س مـمـيـز
|
رد: المنظورات المستقبلية لوحدة الثقافة العربية
|
||||
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
Google Adsense Privacy Policy | سياسة الخصوصية لـ جوجل ادسنس
^-^ جميع آلمشآركآت آلمكتوبهـ تعبّر عن وجهة نظر صآحبهآ ,, ولا تعبّر بأي شكلـ من آلأشكآل عن وجهة نظر إدآرة آلمنتدى ~