ماشاء الله تبارك الله ماشاء الله لاقوة الا بالله , اللهم اني اسالك الهدى والتقى والعفاف والغنى
" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ *مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ". صدق الله العظيم
الساده الاعضاء و زوار منتديات المهندسين العرب الكرام , , مشاهده القنوات الفضائيه بدون كارت مخالف للقوانين والمنتدى للغرض التعليمى فقط
   
Press Here To Hidden Advertise.:: إعلانات منتديات المهندسين العرب لطلب الاعلان عمل موضوع بقسم الشكاوي ::.

 IPTV Reseller

  لطلب الاعلان عمل موضوع بقسم طلبات الاعلانات اسفل المنتدى لطلب الاعلان عمل موضوع بقسم طلبات الاعلانات اسفل المنتدى لطلب الاعلان عمل موضوع بقسم طلبات الاعلانات اسفل المنتدى

Powerd By : Mohandsen.com

العودة   المهندسين العرب > اسلاميات ( حبا في رسول الله ) > المنتدي الاسلامي > المكتبه الاسلاميه

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 15/6/2007, 12:46 PM
الصورة الرمزية فارس العايدى
 
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  فارس العايدى غير متصل  
الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الـجنـس :
الدولـة :
المشاركـات : 1,202 [+]
آخــر تواجـد : ()
عدد الـنقـاط : 25
قوة التـرشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز
new صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

موضوع مفتوح للاعضاء الكرام من يعرف صحابى يكتب عنه



الشهيد العائذ بالبيت




عبد الله بن الزبير

إنه أبو بكر عبد الله بن الزبير بن العوام -رضي الله عنه-،
ابن ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر، وقد وضعته أمه حين وصلت قُباء، فكان أول مولود للمهاجرين بعد الهجرة، ثم أتت به أمه الرسول فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها ثم وضعها في فمه، فكان أول شيء دخل بطنه ريق النبي ، ثم دعا له بالبركة، وسماه عبد الله على اسم جده
أبي بكر وكناه بكنيته. [مسلم]،
وكان ميلاده حدثًا عظيمًا أبطل مزاعم اليهود الذين زعموا أنهم سحروا المسلمين فلن يولد لهم بالمدينة ولد، وكبَّر الصحابة حين ولد تكبيرة اهتزت المدينة منها.



ونشأ عبد الله في بيت النبوة حيث تربى في حجر خالته عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، وظهرت عليه علامات الشجاعة منذ طفولته. وذات يوم تحدث بعض الصحابة مع النبي في أمر أبناء المهاجرين والأنصار الذين ولدوا في الإسلام حتى ترعرعوا من أمثال عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر، وعمر بن أبي سلمة، وقالوا له: لو بايعتهم فتصيبهم بركتك، ويكون لهم ذكر؟، وجاءوا بهم إلى النبي فخافوا ووجلوا من النبي إلا عبد الله بن الزبير الذي اقتحم أولهم، فرآه النبي فتبسَّم، وقال: (إنه ابن أبيه). وبايعه النبي وهو ابن سبع سنين. [مسلم].
وكان عبد الله فارسًا شجاعًا يحب الجهاد، ويذهب مع أبيه ليتدرب على ركوب الخيل والمبارزة، وشهد معه معارك عديدة منها اليرموك، واشترك في فتح إفريقية، وهو الذي حمل البشرى إلى الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بفتحها.



وكان -رضي الله عنه- عابدًا لله، قارئًا لكتاب الله، قوامًا لليل، صوامًا للنهار،
قال عنه عمرو بن دينار: ما رأيت مصليًا أحسن صلاة من ابن الزبير.
وقال ثابت البناني: كنت أمرُّ بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي، كأنه خشبة منصوبة لا تتحرك.
وكان أحد الذين أمرهم عثمان -رضي الله عنه- بنسخ المصاحف.
قال عمر بن عبد العزيز يومًا لابن أبي مليكة: صف لنا عبد الله بن الزبير
فقال: والله ما رأيت نفسًا رُكبت بين جنبين مثل نفسه، ولقد كان يدخل في الصلاة، فيخرج من كل شيء إليها، وكان يركع أو يسجد فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله لا تحسبه من طول ركوعه وسجوده إلا جدارًا.



واشترك -رضي الله عنه- مع أبيه في موقعة الجمل، وبعد أن أصبح الحكم في يد بني أمية ظل عبد الله على خلاف معهم،
فاعترض على ولاية يزيد بن معاوية. ولما توفي يزيد بايعت جميع الولايات الإسلامية عبدالله بن الزبير أميرًا للمؤمنين، واتخذ عبدالله من مكة عاصمة لدولته، وبسط يده على الحجاز واليمن والبصرة والكوفة والشام كلها ما عدا دمشق، وظل عبدالله باسطًا يده على هذه البلاد حتى استطاع مروان بن الحكم أن ينتزع منه هذه الولايات عدا الحجاز التي ظلت تحت سيطرة عبدالله.
ورغم ذلك لم يهدأ الأمويون، فأخذوا يشنون حروبًا متصلة ضد ابن الزبير، انهزموا في أكثرها حتى جاء عهد عبد الملك بن مروان الذي أرسل الحجاج بن يوسف الثقفي على رأس جيش كبير لغزو مكة عاصمة ابن الزبير، فحاصرها ستة أشهر مانعًا عن الناس الماء والطعام كي يحملهم على ترك عبد الله بن الزبير،
وتحت وطأة الجوع استسلم الكثير من جنوده، ووجد عبد الله نفسه وحيدًا، فقرر أن يتحمل مسئوليته حتى النهاية، وراح يقاتل جيش الحجاج في شجاعة فائقة، وكان عمره يومئذ سبعين سنة.



وأثناء ذلك ذهب عبد الله إلى أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنها-، وأخذ يشرح لها موقفه، فقالت له: يا بني، إنك أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق، وتدعو إلى حق، فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، ولا تملك من رقبتك غلمان بني أمية، وإن كنت تعلم أنك أردت الدنيا فلبئس العبد أنت أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك.
فقال عبد الله: والله يا أماه، ما أردت الدنيا، ولا ركنت إليها، وما جُرْتُ في حكم الله أبدًا، ولا ظلمت، ولا غدرت.
فقالت أمه أسماء: أني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنًا، إن سبقتني إلى الله أو سبقتك، اللهم ارحم طول قيامه في الليل، وظمأه في الهواجر (الأيام الشديدة الحر)، وبرَّه بأبيه وبي، اللهم أني أسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
وانطلق عبد الله يقاتل الحجاج مع مَنْ تبقَّى معه من المسلمين حتى استشهد ومعه كثير من المسلمين وكان ذلك عام (37هـ).



ولما قتل عبد الله كبر أصحاب الحجاج فسمعهم ابن عمر، فقال: أما والله للذين كبروا عند مولده خير من هؤلاء الذين كبروا عند قتله. ثم صلبه الحجاج على إحدى الطرق، فمرَّ به ابن عمر وهو مصلوب فقال: السلام عليك يا أبا خبيب، قالها ثلاث مرات، أما والله، لقد كنت أنهاك عن هذا (يقصد قتال بني أمية) ثم أخذ يثني عليه ويذكر صيامه وقيامه ومكانته.
وجاءت أمه أسماء بنت أبي بكر وكانت عجوزًا مكفوفة البصر،
فقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينـزل (تقصد عبد الله المصلوب)؟
فأنزله، فغسله المسلمون ودفنوه -رضي الله عنه-.
قديم 15/6/2007, 12:49 PM   رقم المشاركة : ( 2 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

افتراضي رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

سعد بن معاذ - هنيئا لك يا أبا عمرو


في العام الواحد والثلاثين من عمره، أسلم..

وفي السابع والثلاثين مات شهيدا..
وبين يوم اسلامه، ويوم وفاته، قضى سعد بن معاذ رضي الله عنه أياما شاهقة في خدمة الله ورسوله..

**




انظروا..

أترون هذا الرجل الوسيم، الجليل، الفارع الطول، المشرق الوجه، الجسيم، الجزل.؟؟

انه هو..

يقطع الأرض وثبا وركضا الى دار أسعد بن زرارة بيرى هذا الرجل الوافد من مكة مصعب بن عمير الذي بعث به محمدا عليه الصلاة والسلام الى المدينة يبشّر فيها بالتوحيد والاسلام..

أجل.. هو ذاهب الى هناك ليدفع بهذا الغريب خارج حدود المدينة، حاملا معه دينه.. وتاركا للمدينة دينها..!!




**




ولكنه لا يكاد يقترب من مجلس مصعب في دار ابن خالته أسيد بن زرارة، حتى ينتعش فؤاده بنسمات حلوة هبّت عليه هبوب العافية..

ولا يكاد يبلغ الجالسين، ويأخذ مكانه بينهم، ملقيا سمعه لكلمات مصعب حتى تكون هداية الله قد أضاءت نفسه وروحه..

وفي احدى مفاجآت القدر الباهرة المذهلة، يلقي زعيم الأنصار حبته بعيدا، ويبسط يمينه مبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم..

وباسلام سعد بن معاذ تشرق في المدينة شمس جديدة، ستدور في فلكها قلوب كثيرة تسلم مع حمد لله رب العالمين..!!

أسلم سعد.. وحمل تبعات اسلامه في بطولة وعظمة..

وعندما هاجر رسول الله وصحبه الى المدينة كانت دور بني عبد الأشهل قبيلة سعد مفتحة الأبواب للمهاجرين، وكانت أموالهم كلها تحت تصرّفهم في غير منّ، ولا أذى.. ولا حساب..!!




**




وتجيء غزوة بدر..

ويجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ليشاورهم في الأمر.

وييمّم وجهه الكريم شطر الأنصار ويقول:

" أشيروا عليّ أيها الناس.."

ونهض سعد بن معاذ قائما كالعلم.. يقول:

" يا رسول الله..

لقد آمنا بك، وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا..

فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك..

ووالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا..

انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء..

ولعلّ الله يريك ما تقرّ به عينك...

فسر بنا على بركة الله"...




**




أهلت كلمات سعد كالبشريات، وتألق وجه الرسول رضا وسعادة وغبطة، فقال للمسلمين:

" سيروا وأبشروا، فان الله وعدني احدى الطائفتين.. والله لكأني أنظر الى مصرع القوم"..

وفي غزوة أحد، وعندما تشتت المسلمون تحت وقع الباغتة الداهمة التي فاجأهم بها جيش المشركين، لم تكن العين لتخطئ مكان سعد بن معاذ..

لقد سمّر قدميه في الأرض بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذود عنه ويدافع في استبسال هو له أهل وبه جدير..




**




وجاءت غزوة الخندق، لتتجلى رجولة سعد وبطولته تجليا باهرا ومجيدا..

وغزوة الخندق هذه، آية بينة على المكايدة المريرة الغادرة التي كان المسلمون يطاردون بها في غير هوادة، من خصوم لا يعرفون في خصومتهم عدلا ولا ذمّة..

فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحيون بالمدينة في سلام يعبدون ربهم، ويتواصون بطاعته، ويرجون أن تكف قريش عن اغارتها وحروبها، اذا فريق من زعماء اليهود يخرجون خلسة الى مكة محرّضين قريشا على رسول الله، وباذلين لها الوعود والعهود أن يقفوا بجانب القرشيين اذا هم خرجوا لقتال المسلمين..

واتفقوا مع المشركين فعلا، ووضعوا معا خطة القتال والغزو..

وفي طريقهم وهم راجعون الى المدينة حرّضوا قبيلة من أكبر قبائل العرب، هي قبيلة غطفان واتفقوا مع زعمائها على الانضمام لجيش قريش..

وضعت خطة الحرب، ووظعت أدوارها.. فقريش وغطفان يهاجمان المدينة بجيش عرمرم كبير..

واليهود يقومون بدور تخريبي داخل المدينة وحولها في الوقت الذي يباغتها فيه الجيش المهاجم..

ولما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالمؤامرة الغادرة راح يعدّ لها العدّة.. فأمر بحفر خندق حول المدينة ليعوق زحف المهاجمين.

وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الى كعب بن أسد زعيم يهود بني قريظة، ليتبيّنا حقيقة موقف هؤلاء من الحرب المرتقبة، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يهود بني قريظة عهود ومواثيق..

فلما التقى مبعوثا الرسول بزعيم بني قريظة فوجئا يقول لكم:

" ليس بيننا وبين محمد عهد ولا عقد"..!!




**




عز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتعرض أهل المدينة لهذا الغزو المدمدم والحصار المنهك، ففكر في أن يعزل غطفان عن قريش، فينقض الجيش المهاجم بنصف عدده، ونصف قوته، وراح بالفعل يفاوض زعماء غطفان على أن ينفضوا أيديهم عن هذه الحرب، ولهم لقاء ذلك ثلث ثمار المدينة، ورضي قادة غطفان، ولم يبق الا أن يسجل الاتفاق في وثيقة ممهورة..

وعند هذا المدى من المحاولة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ لم ير من حقه أن ينفرد بالأمر، فدعا اليه أصحابه رضي الله عنهم ليشاورهم..

واهتم عليه الصلاة والسلام اهتماما خاصا برأي سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة.. فهما زعيما المدينة، وهما بهذا أصحاب حق أول في مناقشة هذا الأمر، واختيار موقف تجاهه..




**




قصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما حديث التفاوض الذي جرى بينه وبين زعماء غطفان.. وأنبأهما أنه انما لجأ الى هذه المحاولة، رغبة منه في أن يبعد عن المدينة وأهلها هذا الهجوم الخطير، والحصار الرهيب..

وتقدم السعدان الى رسول الله بهذا السؤال:

" يا رسول الله..

أهذا رأي تختاره، أم وحي أمرك الله به"؟؟

قال الرسول:

" بل أمر أختاره لكم..

والله ما أصنع ذلك الا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم الى أمر ما"..

وأحسّ سعد بن معاذ أن أقدارهم كرجال ومؤمنين تواجه امتحانا، أي امتحان..

هنالك قال:

" يا رسول الله..

قد كنا وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من مدينتنا تمرة، الا قرى، أي كرما وضيفة، أ، بيعا..

أفحين أكرمنا الله بالاسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا..؟؟

والله ما لنا بهذا من حاجة..

ووالله لا نعطيهم الا السيف.. حتى يحكم الله بيننا وبينهم"..!!

وعلى الفور عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه، وأنبأ زعماء غطفان أن أصحابه رفضوا مشروع المفاوضة، وأنه أقرّ رأيهم والتزم به..




**




وبعد أيام شهدت المدينة حصارا رهيبا..

والحق أنه حصار اختارته هي لنفسها أكثر مما كان مفروضا عليها، وذلك بسبب الخندق الذي حفر حولها ليكون جنّة لها ووقاية..

ولبس المسلمون لباس الحرب.

وخرج سعد بن معاذ حاملا سيفه ورمحه وهو ينشد ويقول:

لبث قليلا يشهد الهيجا الجمل ما أجمل الموت اذا حان الأجل

وفي احدى الجولات تلقت ذراع سعد سهما وبيلا، قذفه به أحد المشركين..

وتفجّر الدم من وريده وأسعف سريعا اسعافا مؤقتا يرقأ به دمه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل الى المسجد، وأن تنصب له به خيمة حتى يكون على قرب منه دائما أثناء تمريضه..

وحمل المسلمون فتاهم العظيم الى مكانه في مسجد الرسول..

ورفع سعد بصره الى السماء وقال:

" اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها... فانه لا قوم أحب اليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، وكذبوه، وأخرجوه..

وان كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل ما أصابني اليوم طريقا للشهادة..

ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة"..!




**




لك الله يا سعد بن معاذ..!

فمن ذا الذي يستطيع أن يقول مثل هذا القول، في مثل هذا الموقف سواك..؟؟

ولقد استجاب الله دعاءه..

فكانت اصابته هذه طريقه الى الشهادة، اذ لقي ربه بعد شهر، متأثرا بجراحه..

ولكنه لم يمت حتى شفي صدرا من بني قريظة..

ذلك أنه بعد أن يئست قريش من اقتحام المدينة، ودبّ في صفوف جيشها الهلع، حمل الجميع متاعهم وسلاحهم، وعادوا مخذولين الى مكة..

ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترك بني قريظة، يفرضون على المدينة غدرهم كما شاؤوا، أمر لم يعد من حقه أن يتسامح تجاهه..

هنالك أمر أصحابه بالسير الى بني قريظة.

وهناك حاصروهم خمسة وعشرين يوما..

ولما رأى هؤلاء ألا منجى لهم من المسلمين، استسلموا، وتقدموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجاء أجابهم اليه، وهو أن يحكم فيهم سعد بن معاذ.. وكان سعد حليفهم في الجاهلية..




**




أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه من جاؤوا بسعد بن معاذ

من مخيمه الذي كان يمرّض فيه بالمسجد..

جاء محمولا على دابة، وقد نال منه الاعياء والمرض..

وقال له الرسول:

" يا سعد احكم في بني قريظة".

وراح سعد يستعيد محاولات الغدر التي كان آخرها غزوة الخندق والتي كادت لبمدينة تهلك فيها بأهلها..

وقال سعد:

" اني أرى أن يقتل مقاتلوهم..

وتسبى ذراريهم..

وتقسّم أموالهم.."

وهكذا لم يمت سعد حتى شفي صدره من بني قريظة..




**




كان جرح سعد يزداد خطرا كل يوم، بل كل ساعة..

وذات يوم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيادته، فألفاه يعيش في لحظات الوداع فأخذ عليه الصلاة والسلام رأسه ووضعه في حجره، وابتهل الى الله قائلا:

" اللهم ان سعدا قد جاهد في سبيلك، وصدّق رسولك وقضى الذي عليه، فتقبّل روحه بخير ما تقبّلت به روحا"..!

وهطلت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم على الروح المودّعة بردا وسلاما..

فحاول في جهد، وفتح عينيه راجيا أن يكون وجه رسول الله آخر ما تبصرانه في الحياة وقال:

" السلام عليك يا رسول الله..

أما اني لأشهد أنك رسول الله"..

وتملى وجه النبي وجه سعد آن ذاك وقال:

" هنيئا لك يا أبا عمرو".




**




يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:

" كنت ممن حفروا لسعد قبره..

وكنا كلما حفرنا طبقة من تراب، شممنا ريح المسك.. حتى انتهينا الى اللحد"..

وكان مصاب المسلمين في سعد عظيما..

ولكن عزاءهم كان جليلا، حين سمعوا رسولهم الكريم يقول:

" لقد اهتز عرش الرحمن لموت يعد بن معاذ"..
 
قديم 15/6/2007, 12:51 PM   رقم المشاركة : ( 3 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

new رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

عبادة بن الصامت
- نقيب في حزب الله


انه واحد من الأنصار الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا، لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، ولولا الهجرة لكنت من أمراء الأنصار"..طوعبادة بن الصامت بعد كونه من الأنصار، فهو واحد من زعمائهم الذين اتخذهم نقباء على أهليهم وعشائرهم...

وحينما جاء وفد الأنصار الأول الى مكة ليبايع الرسول عليه السلام، تلك البيعة المشهورة بـ بيعة العقبة الأولى، كان عبادة بن الصامت رضي الله عنه أحد الاثني عشر مؤمنا، الذين سارعوا الى الاسلام، وبسطوا أيمانهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعين، وشدّوا على يمينه مؤازرين ومسلمين...
وحينما كان موعد الحج في العام التالي، يشهد بيعة العقبة الثانية يبابعها وفد الأنصار الثاني، مكّونا من سبعين مؤمنا ومؤمنة، كان عبادة أيضا من زعماء الوفد ونقباء الأنصار..



وفيما بعد والمشاهد تتوالى.. ومواقف التضحية والبذل، والفداء تتابع، كان عبادة هناك لم يتخلف عن مشهد ولم يبخل بتضحية...

ومنذ اختار الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقوم على أفضل وجه بتبعات هذا الاختيار..

كل ولائه لله، وكل طاعته لله، وكلا علاقته بأقربائه بحلفائه وبأعدائه انما يشكلها ايمانه ويشكلها السلوك الذي يفرضه هذا الايمان..

كانت عائلة عبادة مرتبطة بحلف قديم مع يهود بني قينقاع بالمدينة..



زمنذ هاجر الرسول وأصحابه الى المدينة، ويهودها يتظاهرون بمسالمته.. حتى كانت الأيام التي تعقب غزوة بدر وتسبق غزوة أحد، فشرع يهود المدينة يتنمّرون..

وافتعلت احدى قبائلهم بنو قينقاع أسبابا للفتنة وللشغب على المسلمين..

ولا يكذد عبادة يرى موقفهم هذا، حتى ينبذ الى عهدهم ويفسخ حلفهم قائلا:

" انما أتولى الله، ورسوله، والمؤمنين...

فيتنزل القرآن محييا موقفه وولاءه، قائلا في آياته:

( ومن يتولى الله ورسوله، والذين آمنوا، فان حزب الله هم الغالبون)...




**




لقد أعلنت الآية الكريمة قيام حزب الله..

وحزب الله، هم أولئك المؤمنون الذين ينهضون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملين راية الهدى والحق، والذين يشكلون امتدادا مباركا لصفوف المؤمنين الذين سبقوهم عبر التاريخ حول أنبيائهم ورسلهم، مبلّغين في أزمانهم وأعصارهم كلمة الله الحي القيّوم..



ولن يقتصر حزب الله على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل سيمتد عبر الأجيال الوافدة، والأزمنة المقبلة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ضمّا الى صفوفه كل مؤمن بالله وبرسوله..



وهكذا فان الرجل الذي نزلت هذه الآية الكريمة تحيي موقفه وتشيد بولائه وايمانه، لن يظل مجرّد نقيب الأنصار في المدينة، بل سيصير نقيبا من نقباء الدين الذي ستزوى له أقطار الأرض جميعا.

أجل لقد أصبحعبادة بن الصامت نقيب عشيرته من الخزرج، رائدا من روّاد الاسلام، وامام من أئمة المسلمين يخفق اسمه كالراية في معظم أقطار الأرض لا في جبل، ولا في جبلين، أو ثلاثة بل الى ما شاء الله من أجيال.. ومن أزمان.. ومن آماد..!!




**




سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يتحدث عن مسؤلية الأمراء والولاة..

سمعه يتحدث عليه الصلاة والسلام، عن المصير الذي ينتظر من يفرّط منهم في الحق، أو تعبث ذمته بمال، فزلزل زلزالا، وأقسم بالله ألا يكون أميرا على أثنين أبدا..

ولقد برّ بقسمه..

وفي خلافة أمير المؤمنين عمر ؤضي الله عنه، لم يستطع الفاروق أن يحمله على قبول منصب ما، الا تعليم الانس وتفقيههم في الدين.

أجل هذا هو العمل الوحيد الذي آثره عبادة، مبتعدا بنفسه عن الأعمال الأخرى، المحفوفة بالزهو وبالسلطان وبالثراء، والمحفوفة أيضا بالأخطار التي يخشاها على مصيره ودينه

وهكذا سافر الى الشام ثالث ثلاثة: هو ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء.. حيث ملؤا البلاد علما وفقها ونورا...

وسافر عبادة الى فلسطين حيث ولي قضاءها بعض الوقت وكان يحكمها باسم الخليفة آنذاك، معاوية..




**




كان عبادة بن الصامت وهو ثاو في الشام يرنو ببصره الى ما وراء الحدود.. الى المدينة المنورة عاصمة السلام ودار الخلافة، فيرى فيها عمر ابن الخطاب..رجل لم يخلق من طرازه سواه..!!

ثم يرتد بصره الى حيث يقيم، في فلسطين.. فيرى معاوية بن أبي سفيان..رجل يحب الدنيا، ويعشق السلطان...

وعبادة من الرعيل الأول الذي عاش خير حياته وأعظمها وأثراها مع الرسول الكريم.. الرّعيل الذي صهره النضال وصقلته التضحية، وعانق الاسلام رغبا لا رهبا.. وباع نفسه وماله...

عبادة من الرعيل الذي رباه محمد بيديه، وأفرغ عليه من روحه ونوره وعظمته..

واذا كان هناك من الأحياء مثل أعلى للحاكم يملأ نفس عبادة روعة، وقلبه ثقة، فهو ذلك الرجل الشاهق الرابض هناك في المدينة.. عمر بن الخطاب..

فاذا مضى عبادة يقيس تصرّفات معاوية بهذا المقياس، فستكون الشقة بين الاثنين واسعة، وسيكون الصراع محتوما.. وقد كان..!!




**




يقول عبادة رضي الله عنه:

" بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نخاف في الله لومة لائم"..

وعبادة خير من يفي بالبيعة. واذن فهو لن يخشى معاوية بكا سلطانه، وسيقف بالمرصاد لكل أخطائه..

ولقد شهد أهل فلسطين يومئذ عجبا.. وترامت أنباء المعارضة الجسورة التي يشنّها عبادة على معاوية الى أقطار كثيرة من بلاد الاسلام فكانت قدوة ونبراسا..

وعلى الرغم من الحلم الواسع الرحيب الذي اشتهر به معاوية فقد ضاق صدره بمواقف عبادة ورأى فيها تهديدا مباشرا لهيبة سلطانه..

ورأى عبادة من جانبه أن مسافة الخلف بينه وبين معاوية تزداد وتتسع، فقال لمعاوية:" والله لا أساكنك أرضا واحدة أبدا".. وغادر فلسطين الى المدينة..




**




كان أمير المؤمنين عمر، عظيم الفطنة، بعيد النظر.. وكان حريصا على ألا يدع أمثال معاوية من الولاة الذين يعتمدون على ذكائهم ويستعملونه بغير حساب دون أن يحيطهم بنفر من الصحابة الورعين الزاهدين والنصحاء المخلصين، كي يكبحوا جماح الطموح والرغبة لدى أولئك الولاة، وكي يكونوا لهم وللناس تذكرة دائمة بأيام الرسول وعهده..



من أجل هذا لم يكد أمير المؤمنين يبصر عبادة بن الصامت وقد عاد الى المدينة حتى ساله:" ما الذي جاء بك يا عبادة"...؟؟ ولما قصّ عليه ما كان بينه وبين معاوية قال له عمر:

" ارجع الى مكانك، فقبّح الله أرضا ليس فيها مثلك..!!

ثم أرسل عمر الى معاوية كتابا يقول فيه:

" لا امرة لك على عبادة"..!!

أجل ان عبادة أمير نفسه..

وحين يكرّم عمر الفاروق رجلا مثل هذا التكريم، فانه يكون عظيما..

وقد كان عبادة عظيما في ايمانه، وفي استقامة ضميره وحياته...




**


وفي العام الهجري الرابع والثلاثين، توفي بالرملة في أرض فلسطين هذا النقيب الراشد من نقباء الأنصار والاسلام، تاركا في الحياة عبيره وشذاه....
 
قديم 15/6/2007, 12:53 PM   رقم المشاركة : ( 4 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

افتراضي رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

عبدالله بن الزبير
- أي رجل وأي شهيد


كان جنينا مباركا في بطن أمه، وهي تقطع الصحراء اللاهبة مغادرة مكة الى المدينة على طريق الهجرة العظيم.

هكذا قدّر لعبدالله بن الزبير أن يهاجر مع المهاجرين وهو لم يخرج الى الدنيا بعد، ولم تشقق عنه الأرحام..!!

وما كادت أمه أسماء رضي الله عنها وأرضاها، تبلغ قباء عند مشارف المدينة، حتى جاءها المخاض ونزل المهاجر الجنين الى أرض المدينة في نفس الوقت الذي كان ينزلها المهلجرون من أصحاب رسول الله..!!

وحمل أول مولود في الهجرة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره بالمدينة مقبّله وحنّكه، وكان أول شيء دخل جوف عبدالله بن الزبير ريق النبي الكريم.
واحتشد المسلمون في المدينة، وحملوا الوليد في مهده، ثم طوّفوا به في شوارع المدينة كلها مهللين مكبّرين.

ذلك أن اليهود حين نزل الرسول وأصحابه المدينة كبتوا واشتعلت أحقادهم، وبدؤا حرب الأعصاب ضد المسلمين، فأشاعوا أن كهنتهم قد سحروا المسلمين وسلطوا عليهم العقم، فلن تشهد المدينة منهم وليدا جديدا..

فلما أهلّ عبدالله بن الزبير عليهم من عالم الغيب، كان وثيقة دمغ بها القدر افك يهود المدينة وأبطل كيدهم وما يفترون..!!

ان عبدالله لم يبلغ مبلغ الرجال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكنه تلقى من ذلك العهد، ومن الرسول نفسه بحكم اتصاله الوثيق به، كل خامات رجولته ومبادئ حياته التي سنراها فيما بعد ملء الدنيا وحديث الناس..

لقد راح الطفل ينمو نموّا سريعا، وكان خارقا في حيويته، وفطنته وصلابته..

وارتدى مرحلة الشباب، فكان شبابه طهرا، وعفة ونسكا، وبطولة تفوق الخيال..

ومضى مع أيامه وقدره، لا تتغيّر خلائقه ولا تنبوبه رغائبه.. انما هو رجل يعرف طريقه، ويقطعه بعزيمة جبارة، وايمان وثيق وعجيب..




**




وفي فتح افريقية والأندلس، والقسطنطينية. كان وهو لم يجاوز السابعة والعشرين بطلا من أبطال الفتوح الخالدين..

وفي معركة افريقية بالذات وقف المسلمون في عشرين ألف جندي أمام عدو قوام جيشه مائة وعشرون ألفا..

ودار القتال، وغشي المسلمين خطر عظيم..

وألقى عبد الله بن الزبير نظرة على قوات العدو فعرف مصدر قوتهم. وما كان هذا المصدر سوى ملك البربر وقائد الجيش، يصيح في جنوده ويحرضهم بطريقة تدفعهم الى الموت دفعا عجيبا..

وأدرك عبدالله أن المعركة الضارية لن يحسمها سوى سقوط هذا القائد العنيد..

ولكن أين السبيل اليه، ودون بلوغه جيش لجب، يقاتل كالاعصار..؟؟

بيد أن جسارة ابن الزبير واقدامه لم يكونا موضع تساؤول قط..!!

هنالك نادى بعض اخوانه، وقال لهم:

" احموا ظهري، واهجموا معي"...

وشق الصفوف المتلاحمة كالسهم صامدا نحو القائد، حتى اذا بلغه، هو عليه في كرّة واحدة فهوى، ثم استدار بمن معه الى الجنود الذين كانوا يحيطون بملكهم وقائدهم فصرعوهم.. ثم صاحوا الله أكبر..

ورأى المسلمون رايتهم ترتفع، حيث كان يقف قائد البربر يصدر أوامره ويحرّض جيشه، فأدركوا أنه النصر، فشدّوا شدّة رجل واحدة، وانتهى كل شيء لصالح المسلمين..

وعلم قائد الجيش المسلم عبدالله بن أبي سرح بالدور العظيم الذي قام به ابن الزبير فجعل مكافأته أن يحمل بنفسه بشرة النصر الى المدينة والى خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه..




**




على أن بطولته في القتال كانت برغم تفوقها واعجازها تتوارى أمام بطولته في العبادة.

فهذا الذي يمكن أن يبتعث فيه الزهو، وثني الأعطاف، أكثر من سبب، يذهلنا بمكانه الدائم والعالي بين الناسكين العابدين..

فلا حسبه، ولا شبابه، ولا مكانته ورفعته، ولا أمواله ولا قوته..

لا شيء من ذلك كله، استطاع أن يحول بين عبدالله بن الزبير وبين أن يكون العابد الذي يصوم يومه، ويقوم ليله، ويخشع لله خشوعا يبهر الألباب.

قال عمر بن عبدالعزيز يوما لابن أبي مليكة:صف لنا عبدالله بن الزبير..فقال:

" والله ما رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفسه..

ولقد كات يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء اليها..

وكان يركع أو يسجد، فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله،

لا تحسبه من طول ركوعه وسجوده الا جدارا، أو ثوبا مطروحا..

ولقد مرّت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي، فوالله ما أحسّ بها ولا اهتز لها، ولا قطع من أجلها قراءته، ولا تعجل ركوعه"..!!



ان الأنباء الصادقة التي يرويها التاريخ عن عبادة ابن الزبير لشيء يشبه الأساطير..

فهو في صيامه، وفي صلاته، وفي حجه، وفي علوّ همّته، وشرف نفسه..

في سهره طوال العمر قانتا وعبدا..

وفي ظمأ الهواجر طوال عمره صائما مجاهدا..

وفي ايمانه الوثيق بالله، وفي خشيته الداشمة له..

هو في كل هذا نسيج وحده..!

سئل عنه ابن عباس فقال على الرغم مما كان بينهما من خلاف:

" كان قارئا لكتاب الله، متبعا سنة رسوله.. قانتا لله، صائما في الهواجر من مخافة الله.. ابن حواريّ رسول الله.. وأمه أسماء بنت الصديق.. وخالته عائشة زوجة رسول الله.. فلا يجهل حقه الا من أعماه الله"..!!




**




وهو في قوة خلقه وثبات سجاياه، يزري بثبات الجبال..

واضح شريف قوي، على استعداد دائم لأن يدفع حياته ثمنا لصراحته واستقامة نهجه..

أثناء نزاعه مع الأمويين زاره الحصين بن نمير قائد الجيش الذي أرسله يزيد لاخماد ثورة بن الزبير..

زاره اثر وصول الأنباء الى مكة بموت يزيد..

وعرض عليه أن يذهب معه الى الشام، ويستخدم الحصين نفوذه العظيم هناك في أخذ البيعة لابن الزبير..

فرفض عبدالله هذه الفرصة الذهبية،لأنه كان مقتنعا بضرورة القصاص من جيش الشام جزاء الجرائم البشعة التي ارتكبها رجاله من خلال غزوهم الفاجر للمدينة، خدمة لأطماع الأمويين..

قد نختلف مع عبدالله في موقفه هذا، وقد نتمنى لو أنه آثر السلام والصفح، واستجاب للفرصة النادرة التي عرضها عليه الحصين قائد يزيد..

ولكنّ وقفة الرجل أي رجل، الى جانب اقتناعه واعتقاده.. ونبذه الخداع والكذب، أمر يستحق الاعجاب والاحترام..



وعندما هاجمه الحجاج بجيشه، وفرض عليه ومن معه حصارا رهيبا، كان من بين جنده فرقة كبيرة من الأحباش، كانوا من أمهر الرماة والمقاتلين..

ولقد سمعهم يتحدثون عن الخليفة الراحل عثمان رضي الله عنه، حديثا لا ورع فيه ولا انصاف، فعنّفهم وقال لهم:" والله ما أحبّ أن أستظهر على عدوي بمن يبغض عثمان"..!!

ثم صرفهم عنه في محنة هو فيها محتاج للعون، حاجة الغريق الى أمل..!!

ان وضوحه مع نفسه، وصدقه مع عقيدته ومبادئه، جعلاه لا يبالي بأن يخسر مائتين من أكفأ الرماة، لم يعد دينهم موضع ثقته واطمئنانه، مع أنه في معركة مصير طاحنة، وكان من المحتمل كثيرا أن يغير اتجاهها بقاء هؤلاء الرماة الأكفاء الى جانبه..!!




**




ولقد كان صموده في وجه معاوية وابنه يزيد بطولة خارقة حقا..

فقد كا يرى أن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان آخر رجل يصلح لخلافة المسلمين، ان كان يصلح على الاطلاق.. هو محق في رأيه، فـ يزيد هذا كان فاسدا في كل شيء.. لم تكن له فضيلة واحدة تشفع لجرائمه وآثامه التي رواها النا التاريخ..

فكيف يبايعه ابن الزبير؟؟

لقد قال كلمة الرفض قوية صادعة لمعاوية وهو حي..

وها هو ذا يقولها ليزيد بعد أن صار خليفة، وأرسل الى ابن الزبير يتوعده بشرّ مصير..

هناك قال ابن لزبر:

" لا أبايع السكّير أبدا".

ثم أنشد:

ولا الين لغير الحق أساله حتى يلين لضرس الماضغ الحجر




**




وظل ابن الزبير أميرا للمؤمنين، متخذا من مكة المكرّمةعاصمة خلافته، باسطا حكمه على الحجاز، واليمن والبصرة الكوفة وخراسان والشام كلها ما عدا دمشق بعد أن بايعه أهل الأمصار جميعا..

ولكن الأمويين لا يقرّ قرارهم، ولا يهدأ بالهم، فيشنون عليه حروبا موصولة، يبوءون في أكثرها بالهزيمة والخذلان..

حتى جاء عهد عبدالملك بن مروان حين ندب لمهاجمة عبدالله في مكة واحدا من أشقى بني آدم وأكثرهم ايغالا في القسوة والاجرام..

ذلكم هو الحجاج الثقفي الذي قال عنه الامام العادل عمر بن عبدالعزيز:

" لو جاءت كل أمة بخطاياها، وجئنا نحن بالحجاج وحده، لرجحناهم جميعا"..!!




**




ذهب الحجاج على رأس جيشه ومرتزقته لغزومكة عاصمة ابن الزبير، وحاصرها وأهلها قرابة ستة أشهر مانعا عن الناس الماء والطعام، كي يحملهم على ترك عبدالله بن الزبير وحيدا، بلا جيش ولا أعوان.

وتحت وطأة الجوع القاتل استسلم الأكثرون، ووجد عبدالله نفسه، وحيدا أو يكاد، وعلى الرغم من أن فرص النجاة بنفسه وبحياته كانت لا تزال مهيأة له، فقد قرر أن يحمل مسؤوليته الى النهاية، وراح يقاتل جيش الحجاج في شجاعة أسطورية، وهو يومئذ في السبعين من عمره..!!

ولن نبصر صورة أمينةلذلك الموقف الفذ الا اذا اصغينا للحوار الذي دار بين عبدالله وأمه. العظيمة المجيدة أسماء بنت أبي بكر في تلك الساعات الأخيرة من حياته.

لقد ذهب اليها، ووضع أمامها صورة دقيقة لموقفه، وللمصير الذي بدأ واضحا أنه ينتظره..

قالت له أسماء:

" يا بنيّ: أنت أعلم بنفسك، ان كنت تعلم أنك على حق، وتدعو الى حق، فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، ولا تمكّن من رقبتك غلمان بني أميّة..

وان كنت تعلم أنك أردت الدنيا، فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك.

قل عبد الله:

" والله يا أمّاهىما أردت الدنيا، ولا ركنت اليها.

وما جرت في حكم الله أبدا، ولا ظلمت ولا غدرت"..

قالت أمه أسماء:

" اني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسنا ان سبقتني الى الله أو سبقتك.

اللهم ارحم طول قيامه في الليل، وظمأه في الهواجر، وبرّه بأبيه وبي..

اللهم اني اسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبدالله بن الزبير ثواب الصابرين الشاكرين.!"

وتبادلا معا عناق الوداع وتحيته.

وبعد ساعة من الزمان انقضت في قتال مرير غير متكافئ، تلقى الشهيد العظيم ضربة الموت، في وقت استأثر الحجاج فيه بكل ما في الأرض من حقارة ولؤم، فأبى الا أن يصلب الجثمان الهامد، تشفيا وخسّة..!!




**




وقامت أمه، وعمره يومئذ سبع وتسعون سنة، قامت لترى ولدها المصلوب.

وكالطود الشامخ وقفت تجاهه لا تريم.. واقترب الحجاج منها في هوان وذلة قائلا لها:

يا أماه، ان أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان قد أوصاني بك خيرا، فهل لك من حاجة..؟

فصاحت به قائلة:

" لست لك بأم..

انما أنا أم هذا المصلوب على الثنيّة..

وما بي اليكم حاجة..

ولكني أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يخرج من ثقيف كذاب ومبير"..

فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير، فلا أراه الا أنت"!!

واقدم منها عبد الله بن عمر رضي الله عنه معزيا، وداعيا اياها الى الصبر، قأجابته قائلة:

" وماذا يمنعني من الصبر، وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا الى بغيّ من بغايا بني اسرائيل"..!!

يا لعظمتك يا ابنة الصدّيق..!!

أهناك كلمات أروع من هذه تقال للذين فصلوا رأس عبدالله بن الزبير عن رأسه قبل أن يصلبوه..؟؟

أجل.. ان يكن رأس ابن الزبير قد قدّم هديّة للحجاج وعبدالملك.. فان رأس نبي كريم هو يحيى عليه السلام قد قدم من قبل هدية لـ سالومي.. بغيّ حقيرة من بني اسرائيل!!

ما أروع التشبيه، وما أصدق الكلمات.




**




وبعد، فهل كان يمكن لعبدالله بن الزبير أن يحيا حياته دون هذا المستوى البعيد من التفوّق، والبطولة والصلاح، وقد رضع لبان أم من هذا الطراز..؟؟

سلام على عبدالله..

وسلام على أسماء..
سلام عليهما في الشهداء الخالدين..

وسلام عليهما في الأبرار المتقين.
 
قديم 15/6/2007, 12:55 PM   رقم المشاركة : ( 5 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

new رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

في ذكرى وفاته: 18 من رمضان 21هـ
هو "أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة"، ينتهي نسبه إلى "مرة بن كعب بن لؤي" الجد السابع للنبي (صلى الله عليه وسلم) و"أبي بكر الصديق" رضي الله عنه.

وأمه هي "لبابة بنت الحارث بن حزن الهلالية"، وقد ذكر "ابن عساكر" – في تاريخه – أنه كان قريبًا من سن "عمر بن الخطاب".

أسرة عريقة ومجد تليد

وينتمي خالد إلى قبيلة "بني مخزوم" أحد بطون "قريش" التي كانت إليها "القبة" و"الأعنة"، وكان لها شرف عظيم ومكانة كبيرة في الجاهلية، وكانت على قدر كبير من الجاه والثراء، وكانت بينهم وبين قريش مصاهرة متبادلة.

وكان منهم الكثير من السابقين للإسلام؛ منهم: "أبو سلمة بن عبد الأسد"، وكان في طليعة المهاجرين إلى الحبشة، و"الأرقم بن أبي الأرقم" الذي كانت داره أول مسجد للإسلام، وأول مدرسة للدعوة الإسلامية.

وكانت أسرة "خالد" ذات منزلة متميزة في بني مخزوم؛ فعمه "أبو أمية بن المغيرة" كان معروفًا بالحكمة والفضل، وكان مشهورًا بالجود والكرم، وهو الذي أشار على قبائل قريش بتحكيم أول من يدخل عليهم حينما اختلفوا على وضع الحجر الأسود وكادوا يقتتلون، وقد مات قبل الإسلام.

وعمه "هشام بن المغيرة" كان من سادات قريش وأشرافها، وهو الذي قاد بني مخزوم في "حرب الفجار".

وكان لخالد إخوة كثيرون بلغ عددهم ستة من الذكور هم: "العاص" و"أبو قيس" و"عبد شمس" و"عمارة" و"هشام" و"الوليد"، اثنتين من الإناث هما: "فاطمة" و"فاضنة".

أما أبوه فهو "عبد شمس الوليد بن المغيرة المخزومي"، وكان ذا جاه عريض وشرف رفيع في "قريش"، وكان معروفًا بالحكمة والعقل؛ فكان أحدَ حكام "قريش" في الجاهلية، وكان ثَريًّا صاحب ضياع وبساتين لا ينقطع ثمرها طوال العام.

فارس عصره

وفي هذا الجو المترف المحفوف بالنعيم نشأ "خالد بن الوليد"، وتعلم الفروسية كغيره من أبناء الأشراف، ولكنه أبدى نبوغًا ومهارة في الفروسية منذ وقت مبكر، وتميز على جميع أقرانه، كما عُرف بالشجاعة والجَلَد والإقدام، والمهارة وخفة الحركة في الكرّ والفرّ.

واستطاع "خالد" أن يثبت وجوده في ميادين القتال، وأظهر من فنون الفروسية والبراعة في القتال ما جعله فارس عصره بلا منازع.

معاداته للإسلام والمسلمين

وكان "خالد" –كغيره من أبناء "قريش"– معاديًا للإسلام ناقمًا على النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين الذين آمنوا به وناصروه، بل كان شديد العداوة لهم شديد التحامل عليهم، ومن ثَم فقد كان حريصًا على محاربة الإسلام والمسلمين، وكان في طليعة المحاربين لهم في كل المعارك التي خاضها الكفار والمشركون ضد المسلمين.

وكان له دور بارز في إحراز النصر للمشركين على المسلمين في غزوة "أحد"، حينما وجد غِرَّة من المسلمين بعد أن خالف الرماة أوامر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وتركوا مواقعهم في أعلى الجبل، ونزلوا ليشاركوا إخوانهم جمع غنائم وأسلاب المشركين المنهزمين، فدار "خالد" بفلول المشركين وباغَتَ المسلمين من خلفهم، فسادت الفوضى والاضطراب في صفوفهم، واستطاع أن يحقق النصر للمشركين بعد أن كانت هزيمتهم محققة.

كذلك فإن "خالدا" كان أحد صناديد قريش يوم الخندق الذين كانوا يتناوبون الطواف حول الخندق علهم يجدون ثغرة منه؛ فيأخذوا المسلمين على غرة، ولما فشلت الأحزاب في اقتحام الخندق، وولوا منهزمين، كان "خالد بن الوليد" أحد الذين يحمون ظهورهم حتى لا يباغتهم المسلمون.

وفي "الحديبية" خرج "خالد" على رأس مائتي فارس دفعت بهم قريش لملاقاة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، ومنعهم من دخول مكة، وقد أسفر الأمر عن عقد معاهدة بين المسلمين والمشركين عرفت باسم "صلح الحديبية".

وقد تجلت كراهية "خالد" للإسلام والمسلمين حينما أراد المسلمون دخول مكة في عمرة القضاء؛ فلم يطِق خالد أن يراهم يدخلون مكة –رغم ما بينهم من صلح ومعاهدة– وقرر الخروج من مكة حتى لا يبصر أحدًا منهم فيها.

إسلامه

أسلم خالد في (صفر 8 هـ= يونيو 629م)؛ أي قبل فتح مكة بستة أشهر فقط، وقبل غزوة مؤتة بنحو شهرين.

ويروى في سبب إسلامه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال للوليد بن الوليد أخيه، وهو في عمرة القضاء: "لو جاء خالد لقدّمناه، ومن مثله سقط عليه الإسلام في عقله"، فكتب "الوليد" إلى "خالد" يرغبه في الإسلام، ويخبره بما قاله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه، فكان ذلك سبب إسلامه وهجرته.

وقد سُرَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) بإسلام خالد، وقال له حينما أقبل عليه: "الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير".

وفرح المسلمون بانضمام خالد إليهم، فقد أعزه الله بالإسلام كما أعز الإسلام به، وتحول عداء خالد للإسلام والمسلمين إلى حب وتراحم، وانقلبت موالاته للكافرين إلى عداء سافر، وكراهية متأججة، وجولات متلاحقة من الصراع والقتال.

سيف الله في مؤتة

وكانت أولى حلقات الصراع بين خالد والمشركين –بعد التحول العظيم الذي طرأ على حياة خالد وفكره وعقيدته– في (جمادى الأولى 8هـ = سبتمبر 629م) حينما أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) سرية الأمراء إلى "مؤتة" للقصاص من قتلة "الحارث بن عمير" رسوله إلى صاحب بصرى.

وجعل النبي (صلى الله عليه وسلم) على هذا الجيش: "زيد بن حارثة" ومن بعده "جعفر بن أبي طالب"، ثم "عبد الله بن رواحة"، فلما التقى المسلمون بجموع الروم، استشهد القادة الثلاثة الذين عينهم النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأصبح المسلمون بلا قائد، وكاد عقدهم ينفرط وهم في أوج المعركة، وأصبح موقفهم حرجًا، فاختاروا "خالدًا" قائدًا عليهم.

واستطاع "خالد" بحنكته ومهارته أن يعيد الثقة إلى نفوس المسلمين بعد أن أعاد تنظيم صفوفهم، وقد أبلى "خالد" – في تلك المعركة – بلاء حسنًا، فقد اندفع إلى صفوف العدو يعمل فيهم سيفه قتلاً وجرحًا حتى تكسرت في يده تسعة أسياف.

وقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه باستشهاد الأمراء الثلاثة، وأخبرهم أن "خالدًا" أخذ اللواء من بعدهم، وقال عنه: "اللهم إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره". فسمي خالد "سيف الله" منذ ذلك اليوم.

وبرغم قلة عدد جيش المسلمين الذي لا يزيد عن ثلاثة آلاف فارس، فإنه استطاع أن يلقي في روع الروم أن مددًا جاء للمسلمين بعد أن عمد إلى تغيير نظام الجيش بعد كل جولة، فتوقف الروم عن القتال، وتمكن خالد بذلك أن يحفظ جيش المسلمين، ويعود به إلى المدينة استعدادًا لجولات قادمة.

خالد والدفاع عن الإسلام

وحينما خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) في نحو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار؛ لفتح "مكة" في (10 من رمضان 8هـ = 3 من يناير 630م)، جعله النبي (صلى الله عليه وسلم) على أحد جيوش المسلمين الأربعة، وأمره بالدخول من "الليط" في أسفل مكة، فكان خالد هو أول من دخل من أمراء النبي (صلى الله عليه وسلم)، بعد أن اشتبك مع المشركين الذين تصدوا له وحاولوا منعه من دخول البيت الحرام، فقتل منهم ثلاثة عشر مشركًا، واستشهد ثلاثة من المسلمين، ودخل المسلمون مكة – بعد ذلك – دون قتال.

وبعد فتح مكة أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) خالدًا في ثلاثين فارسًا من المسلمين إلى "بطن نخلة" لهدم "العزى" أكبر أصنام "قريش" وأعظمها لديها.

ثم أرسله – بعد ذلك – في نحو ثلاثمائة وخمسين رجلاً إلى "بني جذيمة" يدعوهم إلى الإسلام، ولكن "خالدًا" – بما عُرف عنه من البأس والحماس – قتل منهم عددًا كبيرًا برغم إعلانهم الدخول في الإسلام؛ ظنًا منه أنهم إنما أعلنوا إسلامهم لدرء القتل عن أنفسهم، وقد غضب النبي (صلى الله عليه وسلم) لما فعله خالد وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، وأرسل "عليًا بن أبي طالب" لدفع دية قتلى "بني جذيمة".

وقد اعتبر كثير من المؤرخين تلك الحادثة إحدى مثالب "خالد"، وإن كانوا جميعًا يتفقون على أنه أخطأ متأولاً، وليس عن قصد أو تعمد. وليس أدل على ذلك من أنه ظل يحظى بثقة النبي (صلى الله عليه وسلم)، بل إنه ولاه – بعد ذلك – إمارة عدد كبير من السرايا، وجعله على مقدمة جيش المسلمين في العديد من جولاتهم ضد الكفار والمشركين.

ففي "غزوة حنين" كان "خالد" على مقدمة خيل "بني سليم" في نحو مائة فارس، خرجوا لقتال قبيلة "هوازن" في (شوال 8هـ = فبراير 630م)، وقد أبلى فيها "خالد" بلاءً حسنًا، وقاتل بشجاعة، وثبت في المعركة بعد أن فرَّ من كان معه من "بني سليم"، وظل يقاتل ببسالة وبطولة حتى أثخنته الجراح البليغة، فلما علم النبي (صلى الله عليه وسلم) بما أصابه سأل عن رحله ليعوده.

سيف على أعداء الله

ولكن هذه الجراح البليغة لم تمنع خالدًا أن يكون على رأس جيش المسلمين حينما خرج إلى "الطائف" لحرب "ثقيف" و"هوازن".

ثم بعثه النبي (صلى الله عليه وسلم) – بعد ذلك – إلى "بني المصطلق" سنة (9هـ = 630م)، ليقف على حقيقة أمرهم، بعدما بلغه أنهم ارتدوا عن الإسلام، فأتاهم "خالد" ليلاً، وبعث عيونه إليهم، فعلم أنهم على إسلامهم، فعاد إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فأخبره بخبرهم.

وفي (رجب 9هـ = أكتوبر 630م) أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) "خالدًا" في أربعمائة وعشرين فارسًا إلى "أكيدر بن عبد الملك" صاحب "دومة الجندل"، فاستطاع "خالد" أسر "أكيدر"، وغنم المسلمون مغانم كثيرة، وساقه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فصالحه على فتح "دومة الجندل"، وأن يدفع الجزية للمسلمين، وكتب له النبي (صلى الله عليه وسلم) كتابًا بذلك.

وفي (جمادى الأولى 1هـ = أغسطس 631م) بعث النبي (صلى الله عليه وسلم) "خالدًا" إلى "بني الحارث بن كعب" بنجران في نحو أربعمائة من المسلمين، ليخيرهم بين الإسلام أو القتال، فأسلم كثير منهم، وأقام "خالد" فيهم ستة أشهر يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، ثم أرسل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يخبره بإسلامهم، فكتب إليه النبي يستقدمه مع وفد منهم.

يقاتل المرتدين ومانعي الزكاة

وبعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) شارك "خالد" في قتال المرتدين في عهد "أبي بكر الصديق" – رضي الله عنه – فقد ظن بعض المنافقين وضعاف الإيمان أن الفرصة قد أصبحت سانحة لهم – بعد وفاة النبي – للانقضاض على هذا الدين، فمنهم من ادعى النبوية، ومنهم من تمرد على الإسلام ومنع الزكاة، ومنهم من ارتد عن الإسلام. وقد وقع اضطراب كبير، واشتعلت الفتنة التي أحمى أوارها وزكّى نيرانها كثير من أعداء الإسلام.

وقد واجه الخليفة الأول تلك الفتنة بشجاعة وحزم، وشارك خالد بن الوليد بنصيب وافر في التصدي لهذه الفتنة والقضاء عليها، حينما وجهه أبو بكر لقتال "طليحة بن خويلد الأسدي" وكان قد تنبأ في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) حينما علم بمرضه بعد حجة الوداع، ولكن خطره تفاقم وازدادت فتنته بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) والتفاف كثير من القبائل حوله، واستطاع خالد أن يلحق بطليحة وجيشه هزيمة منكرة فر "طليحة" على إثرها إلى "الشام"، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان له دور بارز في حروب الفرس، وقد استشهد في عهد عمر بن الخطاب.

وبعد فرار طليحة راح خالد يتتبع فلول المرتدين، فأعمل فيهم سيفه حتى عاد كثير منهم إلى الإسلام.

مقتل مالك بن نويرة وزواج خالد من امرأته

ثم سار خالد ومن معه إلى مالك بن نويرة الذي منع الزكاة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فلما علم مالك بقدومه أمر قومه بالتفرق حتى لا يظفر بهم خالد، ولكن خالدا تمكن من أسره في نفر من قومه، وكانت ليلة شديدة البرودة، فأمر خالد مناديًا أن أدفئوا أسراكم، وظن الحرس -وكانوا من كنانة- أنه أراد قتل الأسرى – على لغتهم- فشرعوا فيهم سيوفهم بالقتل، حتى إذا ما انتبه خالد كانوا قد فرغوا منهم.

وأراد خالد أن يكفّر عن ذلك الخطأ الذي لم يعمده فتزوج من امرأة مالك؛ مواساة لها، وتخفيفًا عن مصيبتها في فقد زوجها الفارس الشاعر.

القضاء على فتنة مسيلمة الكذاب

وخرج خالد – بعد ذلك – لقتال مسيلمة الكذاب الذي كان من أشد أولئك المتنبئين خطرًا، ومن أكثرهم أعوانًا وجندًا، ودارت معركة عنيفة بين الجانبين، انتهت بهزيمة "بني حنيفة" ومقتل "مسيلمة"، وقد استشهد في تلك الحرب عدد كبير من المسلمين بلغ أكثر من ثلاثمائة وستين من المهاجرين والأنصار، وكان أكثرهم من السابقين إلى الإسلام، وحفظه القرآن، وهو الأمر الذي دعا أبا بكر إلى التفكير في جمع القرآن الكريم؛ خوفًا عليه من الضياع بعد موت هذا العدد الكبير من الحفاظ.

فتوحات خالد في العراق

ومع بدايات عام (12هـ = 633م) بعد أن قضى أبو بكر على فتنة الردة التي كادت تمزق الأمة وتقضي على الإسلام، توجه الصديق ببصره إلى العراق يريد تأمين حدود الدولة الإسلامية، وكسر شوكة الفرس المتربصين بالإسلام.

وكان خالد في طليعة القواد الذين أرسلهم أبو بكر لتلك المهمة، واستطاع خالد أن يحقق عددًا من الانتصارات على الفرس في "الأبلة" و"المذار" و"الولجة" و"أليس"، وواصل خالد تقدمه نحو "الحيرة" ففتحها بعد أن صالحه أهلها على الجزية، واستمر خالد في تقدمه وفتوحاته حتى فتح جانبًا كبيرًا من العراق، ثم اتجه إلى "الأنبار" ليفتحها، ولكن أهلها تحصنوا بها، وكان حولها خندق عظيم يصعب اجتيازه، ولكن خالدًا لم تعجزه الحيلة، فأمر جنوده برمي الجنود المتحصنين بالسهام في عيونهم، حتى أصابوا نحو ألف عين منهم، ثم عمد إلى الإبل الضعاف والهزيلة، فنحرها وألقى بها في أضيق جانب من الخندق، حتى صنع جسرًا استطاع العبور عليه هو وفرسان المسلمين تحت وابل من السهام أطلقه رماته لحمايتهم من الأعداء المتربصين بهم من فوق أسوار الحصن العالية المنيعة.. فلما رأى قائد الفرس ما صنع خالد وجنوده، طلب الصلح، وأصبحت الأنبار في قبضة المسلمين.

يواصل فتوحاته في العراق

واستخلف خالد "الزبرقان بن بدر" على الأنبار واتجه إلى "عين التمر" التي اجتمع بها عدد كبير من الفرس، تؤازرهم بعض قبائل العرب، فلما بلغهم مقدم "خالد" هربوا، والتجأ من بقي منهم إلى الحصن، وحاصر خالد الحصن حتى استسلم من فيه، فاستخلف "عويم بن الكاهل الأسلمي" على عين التمر، وخرج في جيشه إلى دومة الجندل ففتحهما.

وبسط خالد نفوذه على الحصيد والخنافس والمصيخ، وامتد سلطانه إلى الفراض وأرض السواد ما بين دجلة والفرات.

الطريق إلى الشام

ثم رأى أبو بكر أن يتجه بفتوحاته إلى الشام، فكان خالد قائده الذي يرمي به الأعداء في أي موضع، حتى قال عنه: "والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"، ولم يخيب خالد ظن أبي بكر فيه، فقد استطاع أن يصل إلى الشام بسرعة بعد أن سلك طريقًا مختصرًا، مجتازًا المفاوز المهلكة غير المطروقة، متخذًا "رافع بن عمير الطائي" دليلاً له، ليكون في نجدة أمراء أبي بكر في الشام: "أبي عبيدة عامر الجراح"، و"شرحبيل بن حسنة" و"عمرو بن العاص"، فيفاجئ الروم قبل أن يستعدوا له.. وما إن وصل خالد إلى الشام حتى عمد إلى تجميع جيوش المسلمين تحت راية واحدة، ليتمكنوا من مواجهة عدوهم والتصدي له.

وأعاد خالد تنظيم الجيش، فقسمه إلى كراديس، ليكثروا في عين عدوهم فيهابهم، وجعل كل واحد من قادة المسلمين على رأس عدد من الكراديس، فجعل أبا عبيدة في القلب على (18) كردسا، ومعه عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو، وجعل عمرو بن العاص في الميمنة على 10 كراديس ومعه شرحبيل بن حسنة، وجعل يزيد بن أبي سفيان في الميسرة على 10 كراديس.

والتقى المسلمون والروم في وادي اليرموك وحمل المسلمون على الروم حملة شديدة، أبلوا فيها بلاء حسنا حتى كتب لهم النصر في النهاية. وقد استشهد من المسلمين في هذه الموقعة نحو ثلاثة آلاف، فيهم كثير من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

وتجلت حكمة خالد وقيادته الواعية حينما جاءه رسول برسالة من عمر بن الخطاب تحمل نبأ وفاة أبي بكر الصديق وتخبره بعزله عن إمارة الجيش وتولية أبي عبيدة بدلا منه، وكانت المعركة لا تزال على أشدها بين المسلمين والروم، فكتم خالد النبأ حتى تم النصر للمسلمين، فسلم الرسالة لأبي عبيدة ونزل له عن قيادة الجيش.

خالد بين القيادة والجندية

ولم ينته دور خالد في الفتوحات الإسلامية بعزل عمر له وتولية أبي عبيدة أميرا للجيش، وإنما ظل خالد يقاتل في صفوف المسلمين، فارسا من فرسان الحرب وبطلا من أبطال المعارك الأفذاذ المعدودين.

وكان له دور بارز في فتح دمشق وحمص وقنسرين، ولم يفت في عضده أن يكون واحدا من جنود المسلمين، ولم يوهن في عزمه أن يصير جنديا بعد أن كان قائدا وأميرا؛ فقد كانت غايته الكبرى الجهاد في سبيل الله، ينشده من أي موقع وفي أي مكان.

وفاة الفاتح العظيم

وتوفي خالد بحمص في (18 من رمضان 21هـ = 20 من أغسطس 642م). وحينما حضرته الوفاة، انسابت الدموع من عينيه حارة حزينة ضارعة، ولم تكن دموعه رهبة من الموت، فلطالما واجه الموت بحد سيفه في المعارك، يحمل روحه على سن رمحه، وإنما كان حزنه وبكاؤه لشوقه إلى الشهادة، فقد عزّ عليه –وهو الذي طالما ارتاد ساحات الوغى فترتجف منه قلوب أعدائه وتتزلزل الأرض من تحت أقدامهم- أن يموت على فراشه، وقد جاءت كلماته الأخيرة تعبر عن ذلك الحزن والأسى في تأثر شديد: "لقد حضرت كذا وكذا زحفا وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء".

وحينا يسمع عمر بوفاته يقول: "دع نساء بني مخزوم يبكين على أبي سليمان، فإنهن لا يكذبن، فعلى مثل أبي سليمان تبكي البواكي".

أهم مصادر الدراسة:

البداية والنهاية: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير – تحقيق: د.عبد الله بن عبد المحسن التركي دار هجر للطباعة والنشر، القاهرة 1419هـ = 1998م.

تاريخ خالد بن الوليد البطل الفاتح: أبو زيد شلبي، دار الفرجاني القاهرة، طرابلس 1403هـ = 1983م.

تاريخ الرسل والملوك: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمد بن الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1369هـ = 1976م.

خالد بن الوليد: صادق إبراهيم عرجون، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة 1378هـ = 1967م.

سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: أبو محمد عبد الملك بن هشام، تحقيق ودراسة: مجدي فتحي السيد، دار الصحابة للتراث، طنطا: 1416هـ = 1995م.

سيف الله خالد بن الوليد: الجنرال، أ.أكرم ترجمة: العميد الركن: صبحي الجابي، مؤسسة الرسالة بيروت: 1402هـ = 1982م.

الكامل في التاريخ: ابن الأثير الجزري (عز الدين أبو الحسين علي بن محمد الشيباني)، دار صادر، بيروت، 1399هـ = 1979م.
 
قديم 15/6/2007, 12:58 PM   رقم المشاركة : ( 6 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

افتراضي رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

-

حذيفة بن اليمان -
عدوّ النفاق وصديق الوضوح


خرج أهل المدائن أفواجا يستقبلون واليهم الجديد الذي اختاره لهم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه..

خرجوا تسبقهم أشواقهم الى هذا الصحابي الجليل الذي سمعوا الكثير عو ورعه وتقاه.. وسمعوا أكثر عن بلائه العظيم في فتوحات العراق..

واذ هم ينتظرون الموكب الوافد، أبصروا أمامهم رجلا مضيئا، يركب حمارا على ظهره اكاف قديم، وقد أسدل الرجل ساقيه، وأمسك بكلتا يديه رغيفا وملحا، وهو يأكل ويمضغ طعامه..!

وحين توسط جمعهم، وعرفوا أنه حذيفة بن اليمان الوالي الذي ينتظرون، كاد صوابهم يطير..!!

ولكن فيم العجب..؟!

وماذا كانوا يتوقعون أن يجيء في اختيار عمر..؟!

الحق أنهم معذورون، فما عهدت بلادهم أيام فارس، ولا قبل فارس ولاة من هذا الطراز الجليل.!!
وسار حذيفة، والناس محتشدون حوله، وحافون به..

وحين رآهم يحدّقون فيه كأنهم ينتظرون منه حديثا، ألقى على وجوههم نظرة فاحصة ثم قال:

" اياكم ومواقف الفتن"..!!

قالوا:

وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله..!!

قال:

" أبواب الأمراء"..

يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير، فيصدّقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه"..!

وكان استهلالا بارعا، بقدر ما هو عجيب..!!

واستعاد الانس موفورهم ما سمعوه عن واليهم الجديد، من أنه لا يمقت في الدنيا كلها ولا يحتقر من نقائصها شيئا أكثر مما يمقت النفاق ويحتقره.

وكان هذا الاستهلال أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد، وعن منهجه في الحكم والولاية..




**




فـ حذيفة بن اليمان رجل جاء الحياة مزودا بطبيعة فريدة تتسم ببغض النفاق، وبالقدرة الخارقة على رؤيته في مكامنه البعيدة.

ومنذ جاء هو أخوه صفوان في صحبة أبيهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعنق ثلاثتهم الاسلام، والاسلام يزيد موهبته هذه مضاء وصقلا..

فلقد عانق دينا قويا، نظيفا، شجاعا قويما.. يحتقر الجبن والنفاق، والكذب...

وتأدّب على يدي رسول الله واضح كفق الصبح، لا تخفى عليهم من حياته، ولا من أعماق نفسه خافية.. صادق وأمين..يحب الأقوياء في الحق، ويمقت الملتوين والمرائين والمخادعين..!!



فلم يكن ثمة مجال ترعرع فيه موهبة حذيفة وتزدهر مثل هذا المجال، في رحاب هذا الدين، وبين يدي هذا الرسول، ووسط هذا ارّعيل العظيم من الأصحاب..!!

ولقد نمت موهبته فعلا أعظم نماء.. وتخصص في قراءة الوجوه والسرائر.. يقرأ الوجوه في نظرة.. ويبلوكنه الأعماق المستترة، والدخائل المخبوءة. في غير عناء..

ولقد بلغ من ذلك ما يريد، حتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وهو الملهم الفطن الأريب، يستدل برأي حذيفة، وببصيرته في اختيار الرجال ومعرفتهم.

ولقد أوتي حذيفة من الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه الحياة واضح لمن يريده.. وانما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى، ومن ثم يجب على الأريب أن يعنى بدراسة الشر في مآتيه، ومظانه..

وهكذا عكف حذيفة رضي الله عنه على دراسة الشر والأشرار، والنفاق والمؤمنين..

يقول:

" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..

قلت: يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟

قال: نعم..

قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟

قال: نعم، وفيه دخن..

قلت: وما طخنه..؟

قال: قوم يستنون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي، وتعرف منهم وتنكر..

قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر..؟

قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم اليها قذفوه فيها..

قلت: يا رسول الله، فما تأمرني ان أدركني ذلك..؟

قال: تلزم جماعة المسلمين وامامهم..

قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا امام..؟؟

قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"..!!

أرأيتم قوله:" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"..؟؟



لقد عاش حذيفة بن اليمان مفتوح البصر والبصيرة على مآتي الفتن، مسالك الشرور ليتقها، وليحذر الناس منها. ولقد أفاء عليه هذا بصرا بالدنيا، وخبرة بالانس، ومعرفة بالزمن.. وكلن يدير المسائل في فكره وعقله بأسلوب فيلسوف، وحصانة حكيم...



ويقول رضي الله عنه:

" ان اله تعالى بعث محدا صلى الله عليه وسلم، فدعا الانس من الضلالة الى الهدى، ومن الكفر الى الايمان، فاستجاب له من استجاب، فحيي بالحق من كان ميتا...

ومات بالباطل من كان حيا..

ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلافة على مناهجها..

ثم يكون ملكا عضوضا..!!

فمن الانس من ينكر بقلبه، ويده ولسانه.. أولئك استجابوا لحق..

ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه، كافا يده، فهذا ترك شعبة من الحق..

ومنهم من ينكر بقلبه، كافا يده ولسانه، فهذا ترك شعبتين من الحق..

ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه، فذلك ميّت الأحياء"...!



ويتحدّث عن القلوب وعن حياة الهدى والضلال فيها فيقول:

" القلوب أربعة:

قلب أغلف، فذلك قلب الكافر..

وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق..

وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن..

وقلب فيه نفاق وايمان، فمثلالايمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب.. ومثل النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم: فأيهما غلب، غلب"...!!



وخبرة حذيفة بالشر، واصراره على مقاومته وتحدّيه، أكسبا لسانه وكلماته شيئا من الحدّة، وينبأ هو بهذا في شجاعة نبيلة:

فيقول:

" جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ان لي لسانا ذربا على أهلي، وأخشى أن يدخلني النار..

فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: فأين أنت من الاستغفار..؟؟ اني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"...




**




هذا هو حذيفة عدو النفاق، صديق الوضوح..

ورجل من هذا الطراز، لا يكون ايمانه الا وثيقا.. ولا يكون ولاؤه الا عميقا.. وكذلكم كان حذيفة في ايمانه وولائه..

لقد رأى أباه المسلم يصرع يوم أحد..وبأيد مسلمة، قتلته خطأ وهي تحسبه واحدا من المشريكن..!!

وكان حذيفة يتلفت مصادفة، فرأى السيوف تنوشه، فصاح في ضاربيه: أبي... أبي.. انه أبي..!!

لكن القضاء كان قد حم..

وحين عرف المسلمون، تولاهم الحزن والوجوم.. لكنه نظر اليهم نظرة اشفاق ومغفرة، وقال:

" يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين"..

ثم انطلق بسيفه صوب المعركة المشبوبة يبلي فيها بلاءه، ويؤدي واجبه..

وتنتهي المعركة، ويبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر بالدية عن والد حذيفة "حسيل بن جابر" رضي الله عنه، ويتصدّق بها على المسلمين، فيزداد الرسول حبا له وتقديرا...




**




وايمان حذيفة وولاؤه، لا يعترفان

بالعجز، ولا بالضعف..بل ولا بالمستحيل....

في غزوة الحندق..وبعد أن دبّ الفشل في صفوف كفار قريش وحلفائهم من اليهود، أراد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يقف على آخر تطوّرات الموقف هناك في معسكر أعدائه.



كان اليل مظلما ورهيبا.. وكانت العواصف تزأر وتصطخب، كأنما تريد أن تقتلع جبال الصحراء الراسيات من مكانها.. وكان الموقف كله بما فيه من حصار وعناد واصرار يبعث على الخوف والجزع، وكان الجوع المضني قد بلغ مبلغا وعرا بين اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم..

فمن يملك آنئذ القوة،وأي قوة ليذهب وسط مخاطر حالكة الى معسكر الأعداء ويقتحمه، أو يتسلل داخله ثم يبلوا أمرهم ويعرف أخبارهم..؟؟

ان الرسول هو الذي سيختار من أصحابه من يقوم بهذه المهمة البالغة العسر..

ترى من يكون البطل..؟

انه هو..حذيفة بن اليمان..!

دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فلبى، ومن صدقه العظيم يخبرنا وهو يروي النبأ أنه لم يكن يملك الا أن يلبي.. مشيرا بهذا الى أنه كان يرهب المهمة الموكولة اليه، ويخشى عواقبها، والقيام بها تحت وطأة الجوع، والصقيع، والاعياء الجديد الذي خلفهم فيه حصار المشركين شهرا أو يزيد..!

وكان أمر حذيفة تلك الليلة عجيبا...

فاقد قطع المسافة بين المعسكرين، واخترق الحصار.. وتسلل الى معسكر قريش، وكانت الريح العاتية قد أطفأت نيران المعسكر، فخيّم عليه الظلام،واتخذ حذيفة رضي الله عنه مكانه وسط صفوف المحاربين...

وخشي أبوسفيان قائد قؤيش، أن يفجأهم الظلام بمتسللين من المسلمين، فقام يحذر جيشه، وسمعه حذيفة يقول بصوته المرتفع:

" يا معشر قريش، لينظر كل منكم جليسه، وليأخذ بيده، وليعرف اسمه".

يقول حذيفة"

" فسارعت الى يد الرجل الذي بجواري، وقلت لهمن أنت..؟ قال: فلان بن فلان؟"...

وهكذا أمّن وجوده بين الجيش في سلام..!

واستأنف أبو سفيان نداءه الى الجيش قائلا:" يا معشر قريش.. انكم والله ما أصبحتم بدار مقام.. لقد هلكت الكراع _ أي الخيل_ والخف_ أي الابل_، وأخلفتنابنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فاني مرتحل"..

ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير فتبعه المحاربون..

يقول حذيفة:

" لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليّ ألا تحدث شيئا حتى تأتيني، لقتلته بسهم"..

وعاد حذيفة الى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبره الخبر، وزف البشرى اليه...




**




ومع هذا فان حذيفة يخلف في هذا المجال كل الظنون..

ورجل الصومعة العابد، المتأمل لا يكاد يحمل شيفه ويقابل جيوش الوثنية والضلال حتى يكشف لنا عن عبقرية تبهر الأبصار..

وحسبنا أن نعلم، أنه كان ثالث ثلاثة، أو خامس خمسة كانوا أصحاب السبق العظيم في فتوح العراق جميعها..!



وفي همدان والري والدينور تم الفتح على يديه..

وفي معركة نهاوند العظنى، حيث احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين الفا.. اختار عمر لقيادة الجيوش المسلمة النعمان بن مقرّن ثم كتب الى حذيفة أن يسير اليه على رأس جيش من الكوفة..

وأرسل عمر الى المقاتلين كتابه يقول:

" اذا اجتمع المسلمون فليكن على كل أمير جيشه.. وليكن أمير الجيوش جميعها النعمان بن مقرّن..

فاذا استشهد النعمان، فليأخذ الراية حذيفة، فاذا استشهد فجرير بن عدالله..

وهكذا مضى أمير المؤمنين يختار قوّاد المعركة حتى سمّى منهم سبع...

والتقى الجيشان..

الفرس في مائة ألف وخمسين ألفا..

والمسلمون في ثلاثين ألفا لاغير...

وينشب قتال يفوق كل تصور ونظير ودارت معركة من أشد معارك التاريخ فدائية وعنفا..

وسقط قائد المسلمين قتيلا، سقط النعمان بن مقرّن، وقبل أن تهوي الراية المسلمة الى الأرض كان القائد الجديد قد تسلمها بيمينه، وساق بها رياح النصر في عنفوان لجب واستبسال عظيم... ولم يكن هذا القائد سوى حذيفة بن اليمان...

حمل الراية من فوره، وأوصى بألا ندع نبأ موت النعمان حتى تنجلي المعركة.. ودعا نعيم بن مقرن فجعله مكان أخيه النعمان تكريما له..

أنجزت المهمة في لحظات والقتال يدور، بديهيته المشرقة.. ثم انثنى كالاعصار المدمدم على صفوف الفرس صائحا:

" الله أبكر صدق وعده!!

الله أكبر نصر جنده!!"

ثم لوى زمام فرسه صوب المقاتلين في جيوشه ونادى: يا أتباع محمد.. هاهي ذي جنان الله تتهيأ لاستقبالكم فلا تطيلوا عليها الانتظار..

هيا يا رجال بدر..

تقدموا يا ابطال الخندق وأحد وتبوك..

لقد احتفظ حذيفة بكا حماسة المعركة وأشواقها، ان لم يكن قد زاد منها وفيها..

وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس.. هزيمة لا نكاد نجد لها نظيرا..!!




**




هذا العبقري في حمته، حين تضمّه صومعته..

والعبقري في فدائيته، حين يقف فوق أرض القتال..

هو كذلك العبقري في كل مهمةتوكل اليه، ومشورةتطلب منه.. فحين انتقل سعد بن أبي وقاص والمسلمون معه من المدائن الى الكوفة واستوطنوها..

وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغا.

مما جعل عمر يكتب الى سعد كي يغادرها فورا بعد أن يبحث عن أكثر البقاع ملاءمة، فينتقل بالمسلمين اليها..

يومئذ من الذي وكل اليه أمر اختيار البقعة والمكان..؟

انه حذيفة بن اليمان.. ذهب ومعه سلمان بن زياد، يرتادان لمسلمين المكان الملائم..

فلما بلغا أرض الكوفة، وكانت حصباء جرداء مرملة. شمّ حذيفة عليها أنسام العافية، فقال لصاحبه: هنا المنزل ان شاء الله..

وهكذا خططت الكوفة وأحالتها يد التعمير الى مدينة عامرة...

وما كاد المسلمون ينتقلون اليها، حتى شفي سقيمهم. وقوي ضعيفهم. ونبضت بالعافية عروقهم..!!

لقد كان حذيفة واسع الذكاء، متنوع الخبرة، وكان يقول للمسلمين دائما:

" ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه"...




**




وذات يوم من أيام العام الهجري السادس والثلاثين..دعي للقاء الله.. واذ هو يتهيأ للرحلة الأخيرة دخل عليه بعض أصحابه، فسألهم:

أجئتم معكم بأكفان..؟؟

قالوا: نعم..

قال: أرونيها..

فلما رآها، وجدها جديدة فارهة..

فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم:

" ما هذا لي بكفن.. انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص..

فاني لن أترك في القبر الا قليلا، حتى أبدّل خيرا منهما... أو شرّ منهما"..!!

وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها:

" مرحبا بالموت..

حبيب جاء على شوق..

لا أفلح من ندم"..

وصعدت الى الله روح من أعظم أرواح البشر، ومن أكثرها تقى، وتآلقا، واخباتا...
 
قديم 15/6/2007, 02:08 PM   رقم المشاركة : ( 7 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

افتراضي رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

--------------------------------------------------------------------------------

سعد بن عبادة - حامل راية الأنصار


لا يذكر سعد بن معاذ الا ويذكر معه سعد بن عبادة..

فالاثنان زعيما أهل المدينة..

سعد بن معاذ زعيم الأوس..

وسعد بن عبادة زعيم الخزرج..
وكلاهما أسلم مبكرا، وشهد بيعة العقبة، وعاش الى جوار رسول الله صلى اله عليه وسلم جنديا مطيعا، ومؤمنا صدوقا..

ولعلّ سعد بن عبادة ينفرد بين الأنصار جميعا بأنه حمل نصيبه من تعذيب قريش الذي كانت تنزله بالمسلمين في مكة..!!

لقد كان طبيعيا أن تنال قريش بعذابها أولئك الذين يعيشون بين ظهرانيها، ويقطنون مكة..

أما أن يتعرض لهذا العذاب رجل من المدينة.. وهو ليس بمجرد رجل.. بل زعيم كبير من زعمائها وساداتها، فتلك ميّزة قدّر لابن عبادة أن ينفرد بها..

وذلك بعد أن تمت بيعة العقبة سرا، وأصبح الأنصار يتهيئون للسفر، علمت قريش بما كان من مبايعة الأنصار واتفاقهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم الى الهجرة الى المدينة حيث يقفون معه ومن ورائه ضد قوى الشرك والظلام..

وجنّ جنون قريش فراحت تطارد الركب المسافر حتى أدركت من رجاله سعد بن عبادة فأخذه المشركون، وربطوا يديه الى عنقه بشراك رحله وعادوا به الى مكة، حيث احتشدوا حوله يضربونه وينزلون به ما شاءوا من العذاب..!!

أسعد بن عبادة يصنع به هذا..!؟

زعيم المدينة، الذي طالما أجار مستجيرهم، وحمى تجارتهم، وأكرم وفادتهم حين يذهب منهم الى المدينة ذاهب..؟؟

لقد كان الذين اعتقلوه، والذين ضربوه لا يعرفونه ولا يعرفون مكانته في قومه..

ولكن، أتراهم كانوا تاركيه لو عرفوه..؟

ألم ينالوا بتعذيبهم سادة مكة الذين أسلموا..؟؟

ان قريشا في تلك الأيام كانت مجنونة، ترى كل مقدرات جاهليتها تتهيأ للسقوط تحت معاول الحق، فلم تعرف سوى اشفاء أحقادها نهجا وسبيلا..

أحاط المشركون بسعد بن عبادة ضاربين ومعتدين..

ولندع سعدا يحكي لنا بقيّة النبأ:

".. فوالله اني لفي أيديهم اذ طلع عليّ نفر من قريش، فيهم رجل وضيء، أبيض، شعشاع من الجرال..

فقلت في نفسي: ان يك عند أحد من القوم خير، فعند هذا.

فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة..

فقلت في نفسي: لا والله، ما عندهم بعد هذا من خير..!!

فوالله اني لفي أيديهم يسحبونني اذ أوى اليّ رجل ممن كان معهم فقال: ويحك، اما بينك وبين أحد من قريش جوار..؟

قلت: بلى.. كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة، وأمنعهم ممن يريد ظلمهم ببلادي، وكنت أجير للحارث بن حرب بن أميّة..

قال الرجل: فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما من جوار، ففعات..

وخرج الرجل اليهما، فأنبأهما أن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح، وهو يهتف باسميهما، ويذكر أن بينه وبينهما جوارا..

فسألاه عن اسمي.. فقال سعد بن عبادة..

فقالا: صدقا والله، وجاءا فخلصاني من أيديهم".



غادر سعد بعد هذا العدوان الذي صادفه في أوانه ليعلم كم تتسلح قريش بالجريمة ضدّ قوم عزل، يدعون الى الخير، والحق والسلام..

ولقد شحذ هذا العدوان، وقرر أن يتفانى في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصحاب والاسلام..




**




ويهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة.. ويهاجر قبله أصحابه..

وهناك سخّر سعد أمواله لخدمة المهاجرين..

كان سعد جوادا بالفطرة وبالوراثة..

فهو ابن عبادة بن دليم بن حارثة الذي كانت شهرة جوده في الجاهلية أوسع من كل شهرة..

ولقد صار جود سعد في الاسلام آية من آيات ايمانه القوي الوثيق..

قال الرواة عن جوده هذا:

" كانت جفنة سعد تدور مع النبي صلى اله عليه وسلم في بيوته جميعا"..

وقالوا:

" كان الرجل من الأنصار ينطلق الى داره، بالواحد من المهاجرين، أو بالاثنين، أو بالثلاثة.

وكان سعد بن عبادة ينطلق بالثمانين"..!!

من أجل هذا، كان سعد يسأل ربه دائما المزيد من خره ورزقه..

وكان يقول:

" اللهم انه لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه"..!!

ون\من أجل هذا كان خليقا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له:

" اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة"..




**




ولم يضع سعد ثروته وحدها في خدمة الاسلام الحنيف، بل وضع قوته ومهارته..

فقد كان يجيد الرمي اجادة فائقة.. وفي غزواته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فدائيته حازمة وحاسمة.

يقول ابن عباس رضي الله عنهما:

" كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المواطن كلها رايتان..

مع علي ابن أبي طالب راية المهاجرين..

ومع سعد بن عبادة، راية الأنصار"..




**




ويبدو أن الشدّة كانت طابع هذه الشخصية القوية..

فهو شديد في الحق..

وشديد في تشبثه بما يرى لنفسه من حق..

واذا اقتنع بأمر نهض لاعلانه في صراحة لا تعرف المداراة، وتصميم لا يعرف المسايرة..

وهذه الشدة، أ، هذا التطرّف، هو الذي دفع زعيم الأنصار الكبير الى مواقف كانت عليه أكثر مما كانت له..




**




فيوم فتح مكة، جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أميرا على فيلق من جيوش المسلمين..

ولم يكد يشارف أبواب البلد الحرام حتى صاح:

" اليوم يوم الملحمة..

اليوم تستحل الحرمة"..

وسمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسارع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:

" يا رسول الله..

اسمع ما قال سعد بن عبادة..

ما نأمن أن يكون له في قريش صولة"..

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليّا أن يدركه، ويأخذ الراية منه، ويتأمّر مكانه..

ان سعدا حين رأى مكة مذعنة مستسلمة لجيش الاسلام الفاتح.. تذكّر كل صور العذاب الذي صبّته على المؤمنين، وعليه هو ذات يوم..
وتذكر الحروب التي سنتها على قوم ودعاة.. كل ذنبهم أنهم يقولون: لا اله الا الله، فدفعته شدّته الى الشماتة بقريش وتوعدها يوم الفتح العظيم..




**


وهذه الشدة نفسها،أو قل هذا التطرّف الذي كان يشكل جزءا من طبيعة سعد هو الذي جعله يقف يوم السقيفة موقفه المعروف..

فعلى أثر وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، التف حوله ح\جماعة من الأنصار في سقيفة بني ساعدة منادين بأن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار..

كانت خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفا لذويه في الدنيا والآخرة..

ومن ثم أراد هذا الفريق من الأنصار أن ينالوه ويظفروا به..

ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف أبا بكر على الصلاة أثناء مرضه، وفهم الثحابة من هذا الاستخلاف الذي كان مؤيدا بمظاهر أخرى أضفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أبي بكر.. ثاني اثنين اذ هما في الغار..

نقول: فهموا أن أبا بكر أحق بالخلافة من سواه..

وهكذا تزعّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الرأي واستمسك به في حين تزعم سعد بن عبادة رضي الله عنه، الرأي الآخر واستمسك به، مما جعل كثيرين من الصحابة رضي الله عنهم يأخذون عليه هذا الموقف الذي كان موضع رفضهم واستنكارهم..




**




ولكن سعد بن عبادة بموقفه هذا، كان يستجيب في صدق لطبيعته وسجاياه..

فهو كما ذكرنا شديد التثبت باقتناعه، وممعن في الاصرار على صراحته ووضوحه..

ويدلنا على هذه السجيّة فيه، موقفه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد غزوة حنين..

فحين انتهى المسلمون من تلك الغزوة ظافرين، راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع غنائمها على المسلمين.. واهتم يومئذ اهتماما خاصا بالمؤلفة قلوبهم، وهم أولئك الأشراف الذين دخلوا الاسلام من قريب، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساعدهم على أنفسهم بهذا التألف، كما أعطى ذوي الحاجة من المقاتلين.

وأما أولو الاسلام المكين، فقد وكلهم الى اسلامهم، ولم يعطهم من غنائم هذه الغزوة شيئا..

كان عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجرّد عطائه، شرفا يحرص عليه جميع الناس..

وكانت غنائم الحرب قد أصبحت تشكّل دخلا هاما تقوم عليه معايش المسلمين..

وهكذا تساءل الأنصار في مرارة: لماذا لم يعطهم رسول الله حظهم من الفيء والغنيمة..؟؟

وقال شاعرهم حسان بن ثابت:

وأت الرسول فقل يا خير مؤتمن

للمؤمنين اذا ما عدّد البشر

علام تدعى سليم، وهي نازحة

قدّام قوم، هموا آووا وهم نصروا

سمّاهم الله الأنصار بنصرهم

دين الهدى، وعوان الحرب تستعير

وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

للنائبات، وما جاموا وما ضجروا

ففي هذه الأبيات عبّر شاعر الرسول والأنصار عن الحرج الذي أحسّه الأنصار، اذ أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، ولم يعطهم شيئا.

ورأى زعيم الأنصار سعد بن عبادة.. وسمع قومه يتهامس بعضهم بهذا الأمر، فلم يرضه هذا الموقف، واستجاب لطبيعته الواضحة المسفرة الصريحة، وذهب من فوره الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:

" يا رسول الله..

ان هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت..

قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء"..

هكذا قال الرجل الواضح كل ما في نفسه، وكل ما في أنفس قومه.. وأعطى الرسول صورة أمينة عن الموقف..

وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" وأين أنت من ذلك يا سعد"..؟؟

أي اذا كان هذا رأي قومك، فما رايك أنت..؟؟

فأجاب سعد بنفس الصراحة قائلا:

" ما أنا الا من قومي"..

هنالك قال له النبي:" اذن فاجمع لي قومك"..

ولا بدّ لنا من أن نتابع القصة الى نهايتها، فان لها روعة لا تقاوم..!

جمع سعد قومه من الأنصار..

وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتملّى وجوههم الآسية. وابتسم ابتسامة متألقة بعرفان جميلهم وتقدير صنيعهم..

ثم قال:

" يا معشر الأنصار..

مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم..؟؟

ألم آتكم ضلالا فهداكم الله..؟؟

وعالة، فأغناكم الله..؟

وأعداء، فألف الله بين قلوبكم..؟؟"

قالوا:

" بلى الله ورسوله أمنّ وأفضل..

قال الرسول:

ألا تجيبونني يا معشر الأنصار..؟

قالوا:

بم نجيبك يا رسول الله..؟؟

لله ولرسوله المن والفضل..

قال الرسول:

أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدّقتم:

أتيتنا مكذوبا، فصدّقناك..

ومخذولا، فنصرناك...

وعائلا، فآسيناك..

وطريدا، فآويناك..

أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتم الى اسلامكم..؟؟

ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا أنتم برسول الله الى رحالكم..؟؟

فوالذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار..

ولو سلك الناس شعبا لسلكت شعب الأنصار..

اللهم ارحم الأنصار..

وأبناء الأنصار..

وأبناء أبناء الأنصار"...!!

هنالك بكى الأنصار حتى أخضلوا لحاهم.

فقد ملأت كلمات الرسول الجليل العظيم أفئدتهم سلاما، وأرواحهم ثراء، وأنفسهم عافية..

وصاحوا جميعا وسعد بن عبادة معهم:

" رضينا برسول الله قسما وحظا"..




**




وفي الأيام الأولى من خلافة عمر ذهب سعد الى أمير المؤمنين، وبنفس صراحته المتطرفة قال له:

" كان صاحبك أبو بكر،والله، أحب الينا منك..

وقد ،والله، أصبحت كارها لجوارك"..!!

وفي هدوء أجابه عمر:

" ان من كره جوار جاره، تحوّل عنه"..

وعاد سعد فقال:

" اني متحوّل الى جوار من هو خير منك"..!!




**




ما كان سعد رضي الله عنه بكلماته هذه لأمير المؤمنين عمر ينفّس عن غيظ، أو يعبّر عن كراهية..

فان من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا، لا يرفض الولاء لرجل مثل عمر، طالما رآه موضع تكريم الرسول وحبّه..

انما أراد سعد وهو واحد من الأصحاب الذين نعتهم القرآن بأنهم رحماء بينهم..

ألا ينتظر ظروفا، قد تطرأ بخلاف بينه وبين أمير المؤمنين، خلاف لا يريده، ولا يرضاه..




**




وشدّ رحاله الى الشام..

وما كاد يبلغها وينزل أرض حوران حتى دعاه أجله، وأفضى الى جوار ربه الرحيم..
 
قديم 15/6/2007, 02:27 PM   رقم المشاركة : ( 8 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

افتراضي رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

--------------------------------------------------------------------------------

المقداد بن عمرو - أول فرسان الاسلام


تحدث عنه أصحابه ورفاقه فقالوا:

" أول من عدا به فرسه في سبيل الله، المقداد بن الأسود..

والمقداد بن الأسود، هو بطلنا هذا المقداد بن عمرو كان قد حالف في الجاهلية الأسود بن عبد يغوث فتبناه، فصار يدعى المقداد بن الأسود، حتى اذا نزلت الآية الكريمة التي تنسخ التبني، نسب لأبيه عمرو بن سعد..

والمقداد من المبكّرين بالاسلام، وسابع سبعة جاهروا باسلامهم وأعلنوه، حاملا نصيبه من أذى قريش ونقمتها، فيس شجاعة الرجال وغبطة الحواريين..!!

ولسوف يظل موقفه يوم بدر لوحة رائعة كل من رآه لو أنه كان صاحب هذا الموقف العظيم..

يقول عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله:

" لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون صاحبه، أحبّ اليّ مما في الأرض جميعا".
في ذلك اليوم الذي بدأ عصيبا.ز حيث أقبلت قريش في بأسها الشديد واصرارها العنيد، وخيلائها وكبريائها..

في ذلك اليوم.. والمسلمون قلة، لم يمتحنوا من قبل في قتال من أجل الاسلام، فهذه أول غزوة لهم يخوضونها..

ووقف الرسول يعجم ايمان الذين معه، ويبلوا استعدادهم لملاقاة الجيش الزاحف عليهم في مشاته وفرسانه..

وراح يشاورهم في الأمر، وأصحاب الرسول يعلمون أنه حين يطلب المشورة والرأي، فانه يفعل ذلك حقا، وأنه يطلب من كل واحد حقيقة اقتناعه وحقيقة رأيه، فان قال قائلهم رأيا يغاير رأي الجماعة كلها، ويخالفها فلا حرج عليه ولا تثريب..



وخاف المقدادا أن يكون بين المسلمين من له بشأن المعركة تحفظات... وقبل أن يسبقه أحد بالحديث همّ هو بالسبق ليصوغ بكلماته القاطعة شعار المعركة، ويسهم في تشكيل ضميرها.

ولكنه قبل أن يحرك شفتيه، كان أبو بكر الصديق قد شرع يتكلم فاطمأن المقداد كثيرا.. وقال أبو بكر فأحسن، وتلاه عمر بن الخطاب فقل وأحسن..

ثم تقدم المقداد وقال:

" يا رسول الله..

امض لما أراك الله، فنحن معك..

والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى

اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون..

بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون..!!

والذي بعثك بالحق، لو سرت بنا الى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ومن خلفك حتى يفتح الله لك".. انطلقت الكلمات كالرصاص المقذوف.. وتلل وجه رسول الله وأشرق فمه عن دعوة صالحة دعاها للمقداد.. وسرت في الحشد الصالح المؤمن حماسة الكلمات الفاضلة التي أطلقها المقداد بن عمرو والتي حددت بقوتها واقناعها نوع القول لمن أراد قولا.. وطراز الحديث لمن يريد حديثا..!!



أجل لقد بلغت كلمات المقداد غايتها من أفئدة المؤمنين، فقام سعد بن معاذ زعيم الأنصار، وقال:

" يا رسول الله..

لقد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق.. وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك.. والذي عثك بالحق.. لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا..

انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء.. ولعل الله يريك منا ما تقر عينك.. فسر على بركة الله"..

وامتلأ قلب الرسول بشرا..

وقال لأصحابه:" سيروا وأبشروا"..

والتقى الجمعان..

وكان من فرسان المسلمين يومئذ ثلاثة لا غير: المقداد بن عمرو، ومرثد بن أبي مرثد، والزبير بن العوّام، بينما كان بقية المجاهدين مشاة، أو راكبين ابلا..




**




ان كلمات المقداد التي مرّت بنا من قبل، لا تصور شجاعته فحسب، بل تصور لنا حكمته الراجحة، وتفكيره العميق..

وكذلك كان المقداد..

كان حكيما أريبا، ولم تكن حمته تعبّر عن نفسها في مجرّد كلمات، بل هي تعبّر عن نفسها في مبادئ نافذة، وسلوك قويم مطرّد. وكانت تجاربه قوتا لحكته وريا لفطنته..



ولاه الرسول على احدى الولايات يوما، فلما رجع سأله النبي:

" كيف وجدت الامارة"..؟؟

فأجاب في صدق عظيم:

" لقد جعلتني أنظر الى نفسي كما لو كنت فوق الناس، وهم جميعا دوني..

والذي بعثك بالحق، لا اتآمرّن على اثنين بعد اليوم، أبدا"..

واذا لم تكن هذه الحكمة فماذا تكون..؟

واذا لم يكن هذا هو الحكيم فمن يكون..؟

رجل لا يخدع عن نفسه، ولا عن ضعفه..

يلي الامارة، فيغشى نفسه الزهو والصلف، ويكتشف في نفسه هذا الضعف، فيقسم ليجنّبها مظانه، وليرفض الامارة بعد تلك التجربة ويتتحاماها.. ثم يبر بقسمه فلا يكون أميرا بعد ذلك أبدا..!!

لقد كان دائب التغني بحديث سمعه من رسول الله.. هوذا:

" ان السعيد لمن جنّب الفتن"..

واذا كان قد رأى في الامارة زهوا يفتنه، أو يكاد يفتنه، فان سعادته اذن في تجنبها..

ومن مظاهر حكمته، طول أناته في الحكم على الرجال..

وهذه أيضا تعلمها من رسول الله.. فقد علمهم عليه السلام أن قلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر حين تغلي..



وكان المقداد يرجئ حكمه الأخير على الناس الى لحظة الموت، ليتأكد أن هذا الذي يريد أن يصدر عليه حكمه لن يتغير ولن يطرأ على حياته جديد.. وأي تغيّر، أو أي جديد بعد الموت..؟؟

وتتألق حكمته في حنكة بالغة خلال هذا الحوار الذي ينقله الينا أحد أصحابه وجلسائه، يقول:



" جلسنا الى المقداد يوما فمرّ به رجل..

فقال مخاطبا المقداد: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى اله عليه وسلم..

والله لوددناةلو أن رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت فأقبل عليه المقداد وقال:

ما يحمل أحدكم على أن يتمنى مشهدا غيّبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه؟؟ والله، لقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام كبّهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم. أولا تحمدون الله الذي جنّبكم مثلا بلائهم، وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم"..



حكمة وأية حكمة..!!

انك لا تلتقي بمؤمن يحب الله ورسوله، الا وتجده يتمنى لو أنه عاش أيام الرسول ورآه..!

ولكن بصيرة المقداد الحاذق الحكيم تكشف البعد المفقود في هذه الأمنية..

ألم يكن من المحتمل لهذا الذي يتمنى لو أنه عاش تلك الأيام.. أن يكون من أصحاب الجحيم..

ألم يكون من المحتمل أن يكفر مع الكافرين.

وأليس من الخير اذن أن يحمد الله الذي رزقه الحياة في عصور استقرّ فيها الاسلام، فأخذه صفوا عفوا..

هذه نظرة المقداد، تتألق حكمة وفطنة.. وفي كل مواقفه، وتجاربه، وكلماته، كان الأريب الحكيم..




**




وكان حب المقداد للاسلام عظيما..

وكان الى جانب ذلك، واعيا حكيما..

والحب حين يكون عظيما وحكيما، فانه يجعل من صاحبه انسانا عليّا، لا يجد غبطة هذا الحب في ذاته.. بل في مسؤولياته..

والمقداد بن عمرو من هذا الطراز..

فحبه الرسول. ملأ قلبه وشعوره بمسؤولياته عن سلامة الرسول، ولم يكن تسمع في المدينة فزعة، الا ويكون المقداد في مثل لمح البصر واقفا على باب رسول الله ممتطيا صهوة فرسه، ممتشقا مهنّده وحسامه..!!

وحبه للاسلام، ملأ قلبه بمسؤولياته عن حماية الاسلام.. ليس فقط من كيد أعدائه.. بل ومن خطأ أصدقائه..



خرج يوما في سريّة، تمكن العدو فيها من حصارهم، فأصدر أمير السرية أمره بألا يرعى أحد دابته.. ولكن أحد المسلمين لم يحط بالأمر خبرا، فخالفه، فتلقى من الأمير عقوبة أكثر مما يستحق، أ، لعله لا يستحقها على الاطلاق..

فمر المقداد بالرجل يبكي ويصيح، فسأله، فأنبأه ما حدث

فأخذ المقداد بيمينه، ومضيا صوب الأمير، وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له:

" والآن أقده من نفسك..

ومكّنه من القصاص"..!!

وأذعن الأمير.. بيد أن الجندي عفا وصفح، وانتشى المقداد بعظمة الموقف، وبعظمة الدين الذي أفاء عليهم هذه العزة، فراح يقول وكأنه يغني:
`
" لأموتنّ، والاسلام عزيز"..!!



أجل تلك كانت أمنيته، أن يموت والاسلام عزيز.. ولقد ثابر مع المثابرين على تحقيق هذه الأمنية مثابرة باهرة جعلته أهلا لأن يقول له الرسول عليه الصلاة والسلام:

"ان الله أمرني بحبك..

وأنبأني أنه يحبك"...
 
قديم 15/6/2007, 02:31 PM   رقم المشاركة : ( 9 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

افتراضي رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

بلال بن رباح -
الساخر من الأهوال


كان عمر بن الخطاب، اذا ذكر أبو بكر قال:

" أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"..

يعني بلالا رضي الله عنه..

وان رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ..

لكن هذا الرجل الشديد السمرة، النحيف الناحل، المفرط الطول الكث الشعر، الخفيف العارضين، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه اليه، وتغدق عليه، الا ويحني رأسه ويغض طرفه، ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل:

"انما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!

فمن هذا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا..!!

انه "بلال بن رباح" مؤذن الاسلام، ومزعج الأصنام..
انه احدى معجزات الايمان والصدق.

احدى معجزات الاسلام العظيم..

في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ الاسلام الى اليوم، والى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..

أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا، وحفظوا اسمه، وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الاسلام: أبي بكر وعمر...!!

وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر، أ، باكستان، أ، الصين..

وفي الأمريكيتين، وأوروبا وروسيا..

وفي تاعراق ، وسوريا، وايران والسودان..

في تونس والمغرب والجزائر..

في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا..

في كل يقعة من الأرض يقتنها مسلمون، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من بلال يا غلام؟

فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه، فيقول:

"أحد.. أحد.."



وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا، لم يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر، حتى يطو به الموت، ويطوّح به الى أعماق النسيان..

لكن صدق ايمانه، وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته، وفي تاريخه مكانا عليّا في الاسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء...

ان كثيرا من عليّة البشر، وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!

بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..

ان سواد بشرته، وتواضع حسبه ونسبه، وهوانه على الانس كعبد رقيق، لم يحرمه حين آثر الاسلام دينا، من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه، وطهره، وتفانيه..



ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب، الا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..

فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال، ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له أهل، ولا حول، ولا يملك من حياته شيئا، فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته..

كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن، لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا..

ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا، فيقدر على ايمان، هيهات أن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!

أجل.. بلال بن رباح!

أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!




**




انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..

كان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا أمل له في غده..!!

ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها، وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم، سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..

لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا، وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا، وغمّا وشرا..



وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون، الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!

أجل انه ليسمعهم يعجبون، ويحارون، في هذا الذي جاء به محمد..!!

ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان ام يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى دينه..!!

سمعهم يتحدّثون عن أمانته..

عن وفائه..

عن رجولته وخلقه..

عن نزاهته ورجاحة عقله..

وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا، ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها، ثم الحقد على بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!




**




وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه، فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم..

ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..

عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!

ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق..!!

ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها، وحماة الوثنية فيها...!




**




أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده، وان كان الاسلام أحق به، ولكنه شرف للانسانية جميعا..

لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام.

ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها، واعتصمت بباريها، وتشبثت بحقها..

لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا، ولا بملئها عذابا..

لقد وضع عريانا فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى..



لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والاسلام، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته..

لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الماتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره..

ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره..



ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه، ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد ايمانه، ويتخلى عن اقتناعه..

حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!

نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:"أحد أحد"

يقولون له: قل كما نقول..

فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:

"ان لساني لا يحسنه"..!!

ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره، حتى اذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:" أحد أحد".



وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:

غدا قل كلمات خير في آلهتنا، قل ربي اللات والعزى، لنذرك وشأتك، فقد تعبنا من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذبون!

فيهز رأسه ويقول:" أحد.. أحد..".

ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا، ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.

ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:

"أحد.. أحد.."

ويعود للحديث والمساومة، من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه، فيقول:

خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم، ان بلالا منا أمه جاريتنا، وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريّتها..

ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر، ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:

"أحد.. أحد.."

وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال الى الرمضاء، وهو صابر محتسب، صامد ثابت.

ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه، ويصيح بهم:

(أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟؟

ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..

وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..



لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع لال قد بلغ في في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته..

باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...



وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية:

خذه، فواللات والعزى، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..

وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..

ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له، وندّا،أجاب أمية قائلا:

والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها..!!



وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!

وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة، واستقرارهم بها، يشرّع الرسول للصلاة أذانها..

فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟

انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد..أحد".

لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.

وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة ايمانا، والأسماع روعة وهو ينادى:

الله أكبر.. الله أكبر

الله أكبر .. الله أكبر

أشهد أن لااله الا الله

أشهد أن لا اله الا الله

أشهد أن محمدا رسول الله

أشهد أن محمدا رسول الله

حي على الصلاة

حي على الصلاة

حي على الفلاح

حي على الفلاح

الله أكبر.. الله أكبر

لااله الا الله...



ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..

وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الاسلام، غزوة بدر.. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: "أحد..أحد".




**




في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها، وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم..!!

ولقد همّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف" .. هذا الذي كان سيدا لبلال، والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..



همّ بالنكوص لولا أن ذهب اليه صديقه "عقبة بن أبي معيط" حين علم عن نبأ تخاذله وتقاعسه، حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي، استجمر بهبذ، فانما أنت من النساء..!!!

وصاح به أمية قائلا: قبحك الله، وقبّح ما جئت به..

ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..

أيّة أسرار للقدر، يطويها وينشرها..؟

لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال، وغير بلال من المسلمين المستضعفين..

واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!

كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!

لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج..!!

ولكن الله بالغ أمره، فليخرج أمية فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما، جاء أوان تصفيته، فالديّان لا يموت، وكما تدينون تدانون..!!



وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين.. فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه، ويسارع اى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء، هو نفسه الذب سيقود أميّة الى مصرعه..

وبيد من..؟

بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!!

نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلاسل، وأوجع صاحبها ضربا، وعذابا..

مع هذه اليد ذاتها، هي اليوم، وفي غزوة بدر، على موعد أجاد القدر توقيته، مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا..

ولقد حدث هذا تماما..



وحين بدأ القتال بين الفريقين، وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم:" أحد.. أحد" انخلع قلب أمية، وجاءه النذير..

ان الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار الأمة الجديدة كلها..!!

"أحد..أحد"؟؟!!

أهكذا..؟ وبهذه السرعة.. وهذا النمو العظيم..؟؟




**




وتلاحمت السيوف وحمي القتال..

وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف" عبد الرحمن بن عوف" صاحب رسول الله، فاحتمى به، وطلب اليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته..

وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره، ثم سار به وسط العمعمة الى مكان السرى.

وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا:

"رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت ان نجا".

ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر، فصاح به عبد الرحمن بن عوف:

"أي بلال.. انه أسيري".

أسير والحرب مشبوبة دائرة..؟

أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟

لا.. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية..

سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم، وهذا المأزق، وهذا المصير..!!

ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف، فصاح بأعلى صوته في المسلمين:

"يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت ان نجا"...!

وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا، وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا.. بل لم يستطع أن يحمي أذراعه التي بددها الزحتم.

وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة، ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح:

"أحد.. أحد.."




**




لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام..

فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى، لجازنا أن نسال بلالا حق التسامح، وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل به.

لكن اللقاء الذي تم بينهما، كان في حرب، جاءها كل فريق ليفني غريمه..



السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب، ثم يبصر بلال أمية الذي لم يترك في جسده موضع أنملة الا ويحمل آثار تعذيب.

وأين يبصره وكيف..؟

يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح به..

في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل..؟؟




**




وتمضي الأيام وتفتح مكة..

ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين..

ويتوجه الى الكعبة رأسا.. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الأصنام..!!

لقد جاء الحق وزهق الباطل..

ومن اليوم لا عزى.. ولا لات.. ولا هبل.. لن يجني الانسان بعد اليوم هامته لحجر، ولا وثن.. ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم الا الله الي ليس كمثله شيء، الواحد الأحد، الكبير المتعال..

ويدخل الرسول الكعبة، مصطحبا معه بلال..!

ولا يكاد يدخلها حتى يواجه تمثالا منحوتا، يمثل ابراهيم عليه السلام وهو يستقسم بالأزلام، فيغضب الرسول ويقول:

"قاتلهم الله..

ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين".



ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد، ويؤذن.

ويؤذن بلال.. فيالروعة الزمان، واملكان، والمناسبة..!!

كفت الحياة في مكة عن الحركة، ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة، تردد في خشوع وهمس كلمات الآذان ورء بلال.



والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:

أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟

أهذا هو حقا، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين..؟؟

أهذا هو حقا الذي قاتلناه، وطاردنبه، وقتلنا أحب الناس اليه..؟

أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه، ويقول لنا:

"اذهبوا فأنتم الطلقاء"..!!



ولكن ثلاثة من أشراف قريش، كانوا جلوسا بفناء الكعبة، وكأنما يلفحهم مشهد بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه، ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع..

أما هؤلاء الثلاثة فهم، أبوسفيان بن حرب، وكان قد أسلم منذ ساعات، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام، وكانا لم يسلما بعد.



قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:

لقد أكرم الله اسيدا، ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:

أما والله لو أعلم أن محمدا محق لاتبعته..!!

وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا:

اني لا أقول شيئا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي الكعبة رآهم، وقرأ وجوههم في لحظة، قال وعيناه تتألقان بنور الله، وفرحة النصر:

قد علمت الذي قلتم..!!!

ومضى يحدثهم بما قالوا..

فصاح الحارث وعتاب:

نشهد أنك رسول الله، والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!

واستقبلا بلال بقلوب جديدة..في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة:

" يامعشر قريش..

ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء..

الناس من آدم وآدم من تراب"..




**




وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشهد معه المشاهد كلها، يؤذن للصلاة، ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات الى النور، ومن الرق الى الحريّة..

وعلا شأن الاسلام، وعلا معه شأن المسلمين، وكان بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:" رجل من أهل الجنة"..

لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا، لا يرى نفسه الا أنه:" الحبشي الذي كان بالأمس عبدا"..!!





ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما:

"أنا بلال، هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. ومنا عبدين فأعتقنا الله.. ان تزوّجونا فالحمد لله.. وان تمنعونا فالله أكبر.."!!




**




وذهب الرسول الى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا، ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق..

وذهب بلال الى خليفة رسول الله يقول له:

" يا خليفة رسول الله..

اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل لبمؤمن الجهاد في سبيل الله"..

فقال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟

قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتىأموت..

قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟

قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع، اني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.

قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال..

قال بلال: ان كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وان كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له..

قالأبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال..

ويختلف الرواة، فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا.

ويروي بعضهم الآخر، أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة، فلما قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج الى الشام.



على أية حال، فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الاسلام، مصمما أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.



ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب، ذلك أنه لم ينطق في أذانه "أشهد أن محمدا رسول الله" حتى تجيش به الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع أساه، وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.

وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة.

ودعا أمير المؤمنين بلال، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها.

وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء..!!




**




ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد.



وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف الى جانب العقيدة والاقتناع...
 
قديم 15/6/2007, 02:32 PM   رقم المشاركة : ( 10 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

new رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

معاذ بن جبل - أعلمهم بالحلال والحرام


عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبابع الأنصار بيعة العقبة الثانية. كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم، شاب مشرق الوجه، رائع النظرة، برّاق الثنايا.. يبهر الأبصار بهوئه وسمته. فاذا تحدّث ازدادت الأبصار انبهارا..!!

ذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه..

هو اذن رجل من الأنصار، بايع يوم العقبة الثانية، فصار من السابقين الأولين.

ورجل له مثل اسبقيته، ومثل ايمانه ويقينه، لا يتخلف عن رسول الله في مشهد ولا في غزاة. وهكذا صنع معاذ..

على أن آلق مزاياه، وأعظم خصائصه، كان فقهه..
بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهلا لقول الرسول عنه:

" أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل"..

وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله، وشجاعة ذكائه. سألأه الرسول حين وجهه الى اليمن:

" بما تقضي يا معاذ؟"

فأجابه قائلا: " بكتاب الله"..

قال الرسول: " فان لم تجد في كتاب الله"..؟

"أقضي بسنة رسوله"..

قال الرسول: " فان لم تجد في سنة رسوله"..؟

قال معاذ:" أجتهد رأيي، ولا آلوا"..

فتهلل وجه الرسول وقال:

" الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".



فولاء معاذ لكتاب الله، ولسنة رسوله لا يحجب عقله عن متابعة رؤاه، ولا يحجب عن عقله تلك الحقائق الهائلة المتسرّة، التي تنتظر من يكتشفها ويواجهها.

ولعل هذه القدرة على الاجتهاد، والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل، هما اللتان مكنتا معاذا من ثرائه الفقهي الذي فاق به أقرانه واخوانه، صار كما وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام " أعلم الناس بالحلال والحرام".

وان الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في الأمور..

فهذا عائذ الله بن عبدالله يحدثنا انه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خلافة عمر..قال:

" فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون، كلهم يذكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحلقة شاب شديد الأدمة، حلو المنطق، وضيء، وهو أشبّ القوم سنا، فاذا اشتبه عليهم من الحديث شيء ردّوه اليه فأفتاهم، ولا يحدثهم الا حين يسألونه، ولما قضي مجلسهم دنوت منه وسالته: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل".



وهذا أبو مسلم الخولاني يقول:

" دخلت مسجد حمص فاذا جماعة من الكهول يتوسطهم شاب برّاق الثنايا، صامت لا يتكلم.ز فاذا امترى القوم في شيء توجهوا اليه يسألونه.ز فقلت لجليس لي: من هذا..؟ قال: معاذ بن جبل.. فوقع في نفسي حبه".



وهذا شهر بن حوشب يقول:

" كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل، نظروا اليه هيبة له"..



ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستثيره كثيرا..

وكان يقول في بض المواطن التي يستعين بها برأي معاذ وفقهه:

" لولا معاذ بن جبل لهلك عكر"..



ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقلا أحسن تدريبه، ومنطقا آسرا مقنعا، ينساب في هدوء واحاطة..



فحيثما نلتقي به من خلال الروايات التاريخية عنه، نجده كما أسلفنا واسط العقد..

فهو دائما جالس والناس حوله.. وهو صموت، لا يتحدث الا على شوق الجالسين الى حديثه..

واذا اختلف الجالسون في أمر، أعادوه الى معاذ لبفصل فيه..

فاذا تكلم، كان كما وصفه أحد معاصريه:

" كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ"..



ولقد بلغ كل هذه المنزلة في علمه، وفي اجلال المسلمين له، أيام الرسول وبعد مماته، وهو شاب.. فلقد مات معاذ في خلافة عمر ولم يجاوز من العمر ثلاثا وثلاثين سنة..!!

وكان معاذ سمح اليد، والنفس، والخلق..

فلا يسأل عن شيء الا أعطاه جزلان مغتبطا..ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله.

ومات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعاذ باليمن منذ وجهه النبي اليها يعلم المسلمين ويفقههم في الدين..



وفي خلافة أبي بكر رجع معاذ من اليمن، وكان عمر قد علم أن معاذا أثرى.. فاقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله..!

ولم ينتظر عمر، بل نهض مسرعا الى دار معاذ وألقى عليه مقالته..



كان معاذ ظاهر الكف، طاهر الذمة، ولئن كان قد أثري، فانه لم يكتسب اثما، ولم يقترف شبهة، ومن ثم فقد رفض عرض عمر، وناقشه رأيه..

وتركه عمر وانصرف..

وفي الغداة، كان معاذ يطوي الأرض حثيثا شطر دار عمر..

ولا يكاد يلقاه.. حتى يعنقه ودموعه تسبق كلماته وتقول:

" لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء، أخشى على نفسي الغرق.. حتى جئت وخلصتني يا عمر"..

وذهبا معا الى أبي بكر.. وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله، فقال أبو بكر:" لا آخذ منك شيئا"..

فنظر عمر الى معاذ وقال:" الآن حلّ وطاب"..

ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درهما واحدا، لو علم أنه أخذه بغير حق..

وما كان عمر متجنيا على معاذ بتهمة أو ظن..

وانما هو عصر المثل كان يزخر بقوم يتسابقون الى ذرى الكمال الميسور، فمنهم الطائر المحلق، ومنهم المهرول، ومنهم المقتصد.. ولكنهم جميعا في قافلة الخير سائرون.




**




ويهاجر معاذ الى الشام، حيث يعيش بين أهلها والوافدين عليها معلما وفقيها، فاذا مات أميرها أبو عبيدة الذي كان الصديق الحميم لمعاذ، استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام، ولا يمضي عليه في الامارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا..

وكان عمر رضي الله عنه يقول:

" لو استخلفت معاذ بن جبل، فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعن نبيك يقول: ان العلماء اذا حضروا ربهم عز وجل ، كان معاذ بين أيديهم"..

والاستخلاف الذي يعنيه عمر هنا، هو الاستخلاف على المسلمين جميعا، لا على بلد أو ولاية..

فلقد سئل عمر قبل موته: لو عهدت الينا..؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه..

لإاجاب قائلا:

" لو كان معاذ بن جبل حيا، ووليته ثم قدمت على ربي عز وجل، فسألني: من ولّيت على أمة محمد، لقلت: ولّيت عليهم معاذ بن جبل، بعد أن سمعت النبي يقول: معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة".




**




قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما:

" يا معاذ.. والله اني لأحبك فلا تنس أن تقول في عقب كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"..

أجل اللهم أعنّي.. فقد كان الرسول دائب الالحاح بهذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه لا حول لهم ولا قوة، ولا سند ولا عون الا بالله، ومن الله العلي العظيم..

ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه..

لقيه الرسول ذات صباح فسأله:

"كيف أصبحت يامعاذ"..؟؟

قال:

" أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله".

قال النبي:

:ان لكل حق حقيقة، فما حقيقة ايمانك"..؟؟

قال معاذ:

" ما أصبحت قط، الا ظننت أني لا أمسي.. ولا أمسيت مساء الا ظننت أني لا أصبح..

ولا خطوت خطوة الا ظننت أني لا أتبعها غيرها..

وكأني أنظر الى كل امة جاثية تدعى الى كتابها..

وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون..

وأهل النار في النار يعذبون.."

فقال له الرسول:

" عرفت فالزم"..

أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره لله، فلم يعد يبصر شيئا سواه..



ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال:

"ان معاذا كان أمّة، قانتا لله حنيفا، ولقد كنا نشبّه معاذا بابراهيم عليه السلام"..




**




وكان معاذ دائب الدعوة الى العلم، والى ذكر الله..

وكان يدعو الناس الى التماس العلم الصحيح النافع ويقول:

" احذروا زيغ الحكيم.. وارفوا الحق بالحق، فان الحق نورا"..!!

وكان يرى العبادة قصدا، وعدلا..

قال له يوما أحد المسلمين: علمني.

قال معاذ: وهل أنت مطيعي اذا علمتك..؟

قال الرجل: اني على طاعتك لحريص..

فقال له معاذ:

" صم وافطر..

وصلّ ونم..

واكتسب ولا تأثم.

ولا تموتنّ الا مسلما..

واياك ودعوة المظلوم"..

وكان يرى العلم معرفة، وعملا فيقول:

" تعلموا ما شئتم أن تتعلموا، فلن ينفعكم الله بالعلم جتى تعملوا"..



وكان يرى الايمان بالله وذكره، استحضارا دائما لعظمته، ومراجعة دائمة لسلوك النفس.

يقول الأسود بن هلال:

" كنا نمشي مع معاذ، فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة"..

ولعل سبب صمته الكثير كان راجعا الى عملية التأمل والتفكر التي لا تهدأ ولا تكف داخل نفسه.. هذا الذي كان كما قال للرسول: لا يخطو خطوة، ويظن أنه سيتبعها بأخرى.. وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربه، واستغراقه في محاسبته نفسه..




**




وحان أجل معاذ، ودعي للقاء الله...

وفي سكرات الموت تنطلق عن اللاشعور حقيقة كل حي، وتجري على لسانه ،ان استكاع الحديث، كلمات تلخص أمره وحياته..

وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم.

فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجيا ربه الرحيم:

" الهم اني كنت أخافك، لكنني اليوم أرجوك، اللهم انك تعلم أني لم أكن أحبّ الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار.. ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ونيل المزيد من العلم والايمان والطاعة"..

وبسط يمينه كأنه يصافح الموت، وراح في غيبوبته يقول:

" مرحبا بالموت..

حبيب جاء على فاقه"..



وسافر معاذ الى الله...
 
قديم 15/6/2007, 02:34 PM   رقم المشاركة : ( 11 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

new رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

عبد الله بن عمر -
المثابر، الأوّاب


تحدّث وهو على قمة عمره الطويل فقال:

"لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم..

فما نكثت ولا بدّلت الى يومي هذا..

وما بايعت صاحب فتنة..

ولا أيقظت مؤمنا من مرقده"..

وفي هذه الكلمات تلخيص لحياة الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين، والذي بدأت علاقته بالاسلام والرسول، وهو في الثالثة عشر من العمر، حين صحب أباه في غزوة بدر، راجيا أن يكون له بين المجاهدين مكان، لولا أن ردّه الرسول عليه السلام لصغر سنه..

من ذلك اليوم.. بل وقبل ذلك اليوم حين صحب أباه في هجرته الى المدينة.. بدأت صلة الغلام ذي الرجولة المبكرة بالرسول عليه السلام والاسلام..

ومن ذلك اليوم الى اليوم الذي يلقى فيه ربه، بالغا من العمر خمسة وثمانين عاما، سنجد فيه حيثما نلقاه، المثابر الأوّاب الذي لا ينحرف عن نهجه قيد أشعرة، ولا يند عن بيعة بايعها، ولا يخيس بعهد أعطاه..

وان المزايا التي تأخذ الأبصار الى عبدالل بن عمر لكثيرة.

فعلمه وتواضعه، واستقامة ضميره ونهجه، وجوده، وورعه، ومثابرته، على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة..

كل هذه الفضائل والخصال، صاغ ابن عمر عمره منها، وشخصيته الفذة، وحياته الطاهرة الصادقة..

لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب خيرا كثيرا.. وتعلم مع أبيه من رسول الله الخير كله والعظمة كلها..

لقد أحسن كأبيه الايمان بالله ورسوله.. ومن ثم، كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر الألباب..

فهو ينظر، ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر، فيحاكيه في دقة واخبات..

هنا مثلا، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي.. فيصلي ابن عمر في ذات المكان..

وهنا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو قائما، فيدعو ابن عمر قائما...

وهنا كان الرسول يدعو جالسا، فيدعو عبدالله جالسا..

وهنا وعلى هذا الطريق نزل الرسول يوما من فوق ظهر ناقته، وصلى ركعتين، فصنع ابن عمر ذلك اذا جمعه السفر بنفس البقعة والمكان..



بل انه ليذكر أن ناقة الرسول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة، قبل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها، ويصلي ركعتين، وقد تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها.

لكن عبدالل بن عمر لا يكاد يبلغ ها المكان يوما حتى يدور بناقته، ثم ينيخها، ثم يصلي ركعتين للله.. تماما كما رأى المشهد من قبل مع رسول الله..



ولقد أثار فرط اتباعه هذا، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت:

"ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله، كما كان يتبعه ابن عمر".

ولقد قضى عمره الطويل المبارك على هذا الولاء الوثيق، حتى لقد حاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول:

"اللهم أبق عبدالله بن عمر ما أبقيتني، كي أقتدي به، فاني لا أعلم أحد على الأمر الأول غيره".



وبقوة هذا التحري لشديد الويق لخطى لبرسول وسنته، كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول الله ولا يروي عنه عليه السلام حديثا الا اذا كان ذاكرا كل حروفه، حرفا.. حرفا.

وقد قال معاصروه..

"لم يكن من أصحاب رسول الله أحد أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه، من عبدالله بن عمر"..!!



وكذلك كان شديد الحذر والتحوّط في الفتيا..

جاءه يوما رجل يستفتيه، فلماألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائلا:

" لا علم لي بما تسأل عنه"

وذهب الرجل في سبيله، ولا يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلان فرحا ويقول لنفسه:

"سئل ابن عمر عما لا يعلم، فقال لا أعلم"..!

كان يخاف أن يجتهد في فتياه، فيخطئ في اجتهاده، وعلى الرغم من أنه يحيا وفق تعاليم الدين العظيم، للمخطئ أجر وللمصيب أجرين، فان ورعه أن يسلبه ورعه كان يسلبه الجسارة على الفتيا.

وكذلك كان ينأى به عن مناصب القضاة..

لقد كانت وظيفة القضاء من أرقع مناصب الدولة والمجتمهع، وكانت تضمن لشاغرها ثراء، وجاها، ومجدا..

ولكن ما حاجة ابن عمر الورع للثراء، وللجاه، وللمجد..؟!



دعاه يوما الخليفة عثمان رضي الله عنهما، وطلب اليه أن يشغل منصب القضاة، فاعتذر.. وألح عليه عثمان، فثابر على اعتذاره..

وسأله عثمان: أتعصيني؟؟

فأجاب ابن عمر:

" كلا.. ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة..

قاض يقضي بجهل، فهو في النار..

وقاض يقضي بهوى، فهو في النار..

وقاض يجتهد ويصيب، فهو كفاف، لا وزر، ولا أجر..

واني لسائلك بالله أن تعفيني"..

وأعفاه عثمان، بعد أن أخذ عليه العهد ألا يخبر أحدا بهذا.

ذلك أن عثمان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس، وانه ليخشى اذا عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا نهجه، وعندئذ لا يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا..



وقد يبدو هذا الموقف لعبد الله بن عمر سمة من سمات السلبية.

بيد أنه ليس كذلك، فعبد الله بن عمر لم يمتنع عن القضاء وليس هناك من يصلح له سواه.. بل هناك كثيرون من أصحاب رسول الله الورعين الصالحين، وكان بعضهم يشتغل بالقضاء والفتية بالفعل..

ولم يكن في تخلي ابن عمر عنه تعطيل لوظيفة القضاء، ولا القاء بها بين أيدي الذين لا يصلحون لها.. ومن ثمّ قد آثر البقاء مع نفسه، ينمّيها ويزكيها بالمزيد من الطاعة، والمزيد من العبادة..



كما أنه في ذلك الحين من حياة الاسلام، كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين وفاضت الأموال، وكثرت المناصب والامارات.

وشرع اغراء المال والمناصب يقترب من بعض القلوب المؤمنة، مما جعل بعض أصحاب الرسول، ومنهم ابن عمر، يرفعون راية المقاومة لهذا الاغراء باتخذهم من أنفسهم قدوة ومثلا في الزهد والورع والعزوف عن المانصب الكبيرة، وقهر فتنتها واغرائها...




**




لقد كان ابن عمر،أخا الليل، يقومه مصليا.. وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا..

ولقد رأى في شبابه رؤيا، فسرها الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبدالله، ومناط غبطته وحبوره..



ولنصغ اليه يحدثنا عن نبأ رؤياه:

"رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن بيدي قطعة استبرق، وكأنني لا أريد مكانا في الجنة الا طارت بي اليه..

ورأيت كأن اثنين أتياني، وأرادا أن يذهبا بي الى النار، فتلقاهما ملك فقال: لا ترع، فخليّا عني..

فقصت حفصة - أختي- على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبدالله، لو كان يصلي من الليل فيكثر"..

ومن ذلك اليوم والى أن لقي ربه، لم يدع قيام الليل في حله، ولا في ترحاله..

فكان يصلي ويتلو القرآن، ويذكر ربه كثيرا.. وكان كأبيه، تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن.



يقول عبيد بن عمير: قرأت يوما على عبدالله بن عمر هذه الآية:

(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا)..

فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت لحيته من دموعه.

وجلس يوما بين اخوانه فقرا:

(ويل للمطففين، الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون، واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم ميعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين)..

ثم مضى يردد الآية:

(..يوم يقوم الناس لرب العالمين).

ودموعه تسيل كالمطر. حتى وقع من كثرة وجده وبكائه..!!




**




ولقد كان جوده، وزهده، وورعه، تعمل معا في فن عظيم، لتشكل أروع فضائل هذا الانسان العظيم.. فهو يعطي الكثير لأنه جواد..

ويعطي الحلال الطيب لأنه ورع..

ولا يبالي أن يتركه الجود فقيرا، لأنه زاهد..!!



وكان ابن عمر رضي الله عنه، من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة، اذ كان تاجرا أمينا ناجحا شطر حياته، وكان راتبه من بيت المال وفيرا.. ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط، انما كان يرسله غدقا على الفقراء، والمساكين والسائلبن..

يحدثنا أيوب بن وائل الراسبي عن أحد مكرماته، فيخبرنا أن ابن عمر جاءه يوما بأربعة آلافدرهم وقطيفة..

وفي اليوم التالي، رآه أيوب بن وائل في السوق يشتري لراحلته علفا نسيئة – أي دينا- ..

فذهب ابن وائل الى أهل بيته وسالهم أليس قد أتى لأبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالأمس أربعة آلاف،وقطيفة..؟

قالوا: بلى..

قال: فاني قد رأيته اليوم بالسوق يشتر علفا لراحلته ولا يجد معه ثمنه..

قالوا: انه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعها، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره، خرج.. ثم عاد وليست معه، فسألناه عنهتا. فقال: انه وهبها لفقير..!!

فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف. حتى أتى السوق فتوقل مكانا عاليا، وصاح في الناس:

" يا معشر التجار..

ما تصنعون بالدنيا، وهذا بن عمر تأتيه الف درهم فيوزعها، ثم يصلح فيستدين علفا لراحلته"..؟؟!!



ألا ان من كان محمد أستاذه، وعمر أباه، لعظيم، كفء لكل عظيم..!!

ان وجود عبد الله بن عمر، وزهزد وورعه، هذه الخصال الثلاثة، كانت تحكي لدى عبد الله صدق القدوة.. وصدق البنوّة..

فما كان لمن يمعن في التأسي برسول الله، حتى انه ليقف بناقته حيث رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف ناقته. ويقول" لعل خفا يقع على خف".!

والذي يذهب برأيه في برأبيه وتوقيره والاعجاب به الى المدى الذي كانت شخصية عمر تفرضه على الأعداء، فضلا عن الأقرباء. فضلا عن الأبناء..

أقول ما ينبغي لمن ينتمي لهذا الرسول، ولهذا الوالد أن يصبح للمال عبدا..

ولقد كانت الأموال تاتيه وافرة كثيرة.. ولكنها تمر به مرورا.. وتعبر داره عبورا..

ولم يكن جوده سبيلا الى الزهو، والا الى حسن الأحدوثة.

ومن ثم. فقد كان يخص به المحتاجين والفقراء.. وقلما كان يأكل الطعام وحده.. فلا بد أن يكون معه أيتام، أو فقراء.. وطالما كان يعاتب بعض أبنائه، حين يولمون للأغنياء، ولا يأتون معهم بالفقراء، ويقول لهم:

"تدعون الشباع. وتدعون الجياع"..!!



وعرف الفقراء عطفه، وذاقوا حلاوة بره وحنانه، فكانوا يجلسون في طريقه، كي يصحبهم الى داره حين يراهم.. وكانوا يحفون به كما تحف أفواج النحل بالأزاهير ترتشف منها الرحيق..!




**




لقد كان المال بين يديه خادما لا سيدا،،

وكان وسيلة لضروات العيش لا للترف..

ولم يكن ماله وحده، بل كان للفقراء فيه حق معلوم، بل حق متكافئ لا يتميز فيه بنصيب..

ولقد أعانه على هذا الجود الواسع زهده.. فما كان ابن عمر يتهالك على الدنيا، ولا يسعى اليها، بل ولا رجو منها الا كا يستر الجسد من لباس، ويقيم الأود من الطعام..



أهداه أحد اخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة أنيقة، وقال له:

لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان، وانه لتقر عيناي، اذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه، وترتدي هذا الثوب الجميل..

قال له ابن عمر: أرنيه اذن..

ثم لمسه وقال: أحرير هذا.؟

قال صاحبه: لا .. انه قطن.

وتملاه عبد الله قليلا، ثم دفعه بيمينه وهويقول:"لا.اني أخاف على نفسي.. أخاف ان يجعلني مختالا فخورا.. والله لا يحب كل مختال فخور"..!!



وأهداه يوما صديقا وعاء مملوءا..

وسأله ابن عمر: ما هذا؟

قال: هذا دواء عظيم جئتك به من العراق.

قال ابن عمر: وماذا يطبب هذا الدواء..؟؟

قال: يهضم الطعام..

فالتسم ابن عمر وقال لصاحبه:" يهضم الطعام..؟ اني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما".!!



ان هذا الذي لم يشبع من الطعام منذ أربعين عاما، لم يكنيترك الشبع خصاصة، بلزهدا وورعا، ومحاولة للتاسي برسوله وأبيه..

كان يخاف أن يقال له يوم القيامة:

(أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)..



وكان يدرك انه في الدنيا ضيف أو عابر شبيل..

ولقد تحدث عن نفسه قائلا:

"ما وضعت لبنة على لبنة، ولا غرست نخلة منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم"..

ويقول ميمون بن مهران:

" دخلت على ابن عمر، فقوّمت كل شيء في بيته من فراش، ولحاف وبساط. ومن كل شيء فيه، فما وجدته تساوي مئة ردهم"..!!

لم يكن ذلك عن فقر.ز قد كان ابن عمر ثريا..

ولا كان ذلك عن بخل فقد كان جوّدا سخيا..

زامكا كان عن زهد في الدنيا، وازدراء للترف، والتزام لمنهجه في الصدق والورع..

ولقد عمّر ابن عمر طويلا، وعاش في العصر الأموي الذي فاضت فيها لأموال وانتشرت الضياع، وغطى البذخ أكث الدور.. بل قل أكثر القصور..

ومع هذا، بقي ذلك الطود الجليل شامخا ثابتا، لا يبرح نهجه ولا يتخلى عن ورعه وزهده.

واذا ذكّر بحظوظ الدنيا ومتاعها التي يهرب منها قال:

"لقد اجتمعت وأصحابي على أمر، واني أخاف ان خالفتهم ألا ألأحق بهم"..

ثم يعلم الآخرين أنه لم يترك دنياهم عجزا، فيرفع يده الى السماء ويقول:

"اللهم انك تعلم أنه لولا مخافتك لزاحمنا قومنا قريشا في هذه الدنيا".




**






أجل.. لولا مخافة ربه لزاحم في الدنيا، ولكان من الظافرين..

بل انه لم يكن بحاجة الى أن يزاحم، فقد كانت الدنيا تسعى اليه وتطارده بطيباتها ومغرياتها..

وهل هناك كمنصب الخلافة اغراء..؟

لقد عرض على ابن عمر مرات وهو يعرض عنه.. وهدد بالقتل ان لم يقبل. فازداد له رفضا، وعنه اعراضا..!!



يقول الحسن رضي الله عنه:

" لما قتل عثمان بن عفان، قالوا لعبد الله بن عمر: انك سيّد الناس، وابن سيد الناس، فاخرج نبايع لك الناس..

قال: ان والله لئن استطعت، لا يهراق بسببي محجمة من دم..

قالوا: لتخرجن، أ، لنقتلنكك على فراشك.. فأعاد عليهم قوله الأول..

فأطمعوه.. وخوّفوه.. فما استقبلوا منه شيئا"..!!



وفيما بعد.. وبينما الزمان يمر، والفتن تكثر، كان ابن عمر دوما هو الأمل، فيلح الناس عليه، كي يقبل منصب الخلافة، ويجيئوا له بالبيعة، ولكنه كان دائما يأبى..

ولقد يشكل هذا الرفض مأخذا يوجه الى ابن عمر..

بيد أن كان له منطقه وحجته.فبعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ساءت الأمور وتفاقمت على نحو ينذر بالسوء والخطر..



وابن عمر وان يك زاهدا في جاه الخلافة، فانه يتقبل مسؤلياتها ويحمل أخطارها، ولكن شريطة أن يختاره جميع المسلمين طائين، مختارين، أما أن يحمل واحد لا غير على بيعته بالسيف، فهذا ما يرفضه، ويرفض الخلافة معه..

وآنئذ، لم يكن ذلك ممكنا.. فعلى الرغم من فضله، واجماع المسلمين على حبه وتوقيره، فان اتساع الأمصار، وتنائبها، والخلافات التي احتدمت بين المسلمين، وجعلتهم شيعا تتنابذ بالحرب، وتتنادى للسيف، لم يجعل الجو مهيأ لهذا الاجماع الذي يشترطه عبدالله بن عمر..



لقيه رجل يوما فقال له: ما أحد شر لأمة محمد منك..!

قال ابن عمر: ولم..؟ فوالله ما سفكت دماءهم، ولا فرقت جماعتهم، ولا شققت عصاهم..

قال الرجل: انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان..

قال ابن عمر: ما أحب أنها أتتني، ورجل يقول: لا، وآخر يقول: نعم.



وحتى بعد أن سارت الأحداث شوطا طويلا، واستقر الأمر لمعاوية.. ثم لابنه يزيد من بعده.ز ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدا فيها بعد أيام من توليها..

حتى في ذلك اليوم، وابن عمر شيخ مسن كبير، كان لا يزال أمل الناس، وأمل الخلافة.. فقد ذهب اليه مروان قال له:

هلم يدك نبايع لك، فانك سيد العرب وابن سيدها..

قال له ابن عمر: كيف نصنع بأهل المشرق..؟

قال مروان: نضربهم حتى يبايعوا..

قال ابن عمر:"والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما، ويقتل بسببي رجل واحد"..!!

فانصرف عنه مروان وهو ينشد:

اني أرى فتنة تغلي مراجلها والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا

يعني بأبي ليلى، معاوية بن يزيد...




**




هذا الرفض لاستعمال القوة والسيف، هو الذي جعل ابن عمر يتخذ من الفتنة المسلحة بين أنصار علي وأنصار معاوية، موقف العزلة والحياد جاعلا شعاره ونهجه هذه الكلمات:

"من قال حي على الصلاة أجبته..

ومن قال حي على الفلاح أجبته..

ومن قال حي على قتل أخيك المسلم واخذ ماله قلت: لا".!!

ولكنه في عزلته تلك وفي حياده، لا يماليء باطلا..

فلطالما جابه معاوية وهو في أوج سلطانه يتحديات أوجعته وأربكته..

حتى توعده بالقتل، وهو القائل:" لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت"..!!



وذات يوم، وقف الحجاج خطيبا، فقال:" ان ابن الزبير حرّف كتاب الله"!

فصاح ابن عمر في وجهه:" كذبت، كذبت، كذبت".

وسقط في يد الحجاج، وصعقته المفاجأة، وهو الذي يرهبه كل شيء، فمضى يتوعد ابن عمر بشرّ جزاء..

ولوذح ابن عمر بذراعه في وجه الحجاج، وأجابه الناس منبهرون:" ان تفعل ما تتوعد به فلا عجب، فانك سفيه متسلط"..!!

ولكنه برغم قوته وجرأته ظل الى آخر أيامه، حريصا على ألا يكون له في الفتنة المسلحة دور ونصيب، رافضا أن ينحاز لأي فريق...

يقول أبو العالية البراء:

" كنت أمشي يوما خلف ابن عمر، وهو لا يشعر بي، فسمعته يقول لنفسه:

" واضعين سيوفهم على عواتقهم، يقتل بعضهم بعضا يقولون: يا عبد الله بن عمر، أعط يدك"..؟!



وكان ينفجر أسى وألما، حين يرى دماء المسلمين تسيل بأيديهم..!!

ولو استطاع أن يمنع القتال، ويصون الدم لفعل، ولكن الأحداث كانت أقوى منه فاعتزلها.

ولقد كان قلبه مع علي رضي الله عنه، بل وكان معه يقينه فيما يبدو، حتى لقد روي عنه أنه قال في أخريات أيامه:

" ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا الا أني لم أقاتل مع عليّ، الفئة الباغية"..!!



على أنه حين رفض أن يقاتل مع الامام علي الذي كان الحق له، وكان الحق معه، فانه لم يفعل ذلك هربا، والا التماسا للنجاة.. بل رفضا للخلاف كله، والفتنة كلها، وتجنبا لقتال لا يدو بين مسلم ومشرك، بل بين مسلمين يأكل بعضهم بعضا..

ولقد أوضح ذلك تماما حين سأله نافع قال:" يا أبا عبد الرحمن، أنت ابن عم.. وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت وأنت، فما يمنعك من هذا الأمر_ يعني نصرة علي_؟؟

فأجابه قائلا:

" يمنعني أن الله تعالى حرّم عليّ دم المسلم، لقد قال عز وجل: (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين ..)

ولقد فعلنا وقاتلنا المشركين حتى كان الدين لله،اما اليوم. فيم نقاتل..؟؟

لقد قاتلت الأوثان تملأ الحرم.. من الركن الى الباب، حتى نضاها الله من أرض العرب..

أفأقاتل اليوم من يقول لا اله الا الله".؟!

هكذا كان منطقه، وكانت حجته، وكان اقتناعه..



فهو اذن لم يتجنب القتال ولم يشترك فيه، لاهروبا، أ، سلبية، بل رفضا لاقرار حرب أهلية بين الأمة المؤمنة، واستنكافا على أن يشهر مسلم في وجه مسلم سيفا..

ولقد عاش عبد الله بن عمر طويلا.. وعاصر الأيام التي فتحت أبواب الدنيا على المسلمين، وفاضت الأموال، وكثرت المناصب، واستشرت المطامح والرغبات..



لكن قدرته النفسية الهائلة، غيّرت كيمياء الومن..!! فجعلت عصر الطموح والمال والفتن.. جعلت هذا العصر بالنسبة اليه، أيام زهد، وورع ويلام، عاشها المثابر الأواب بكل يقينه، ونسكه وترفعه.. ولم يغلب قط على طبيعته الفاضلة التي صاغها وصقلها الاسلام في أيامه الأولى العظيمة الشاهقة..

لقد تغيّرت طبيعة الحياة، مع بدء العصر الأموي، ولم يكن ثمّة مفر من ذلك التغيير.. وأصبح العصر يومئذ، عصر توسع في كل شيء.. توسع لم تستجب اليه مطامح الدولة فحسب، بل ومطامح الجماعة والأفراد أيضا.

ووسط لجج الاغراء، وجيشان العصر المفتون بمزايا التوسع، وبمغانمه، ومباهجه، كان ابن عمر يعيش مع فضائله، في شغل عن ذلك كله بمواصلة تقدمه الروحي العظيم.

ولقد أحرز من أغراض حياته الجليلة ما كان يرجو حتى لقد وصفه معاصروعه فقالوا:

( مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل)



بل لقد كان يطيب لهم حين يبهرهم ألق فضائله، أن يقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر.. فيقولون:

( كان عمر في زمان له فيه نظراء، وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير)..!!

وهي مبالغة يغفرها استحقاق ابن عمر لها، أما عمر فلا يقارن بمثله أحد.. وهيهات أن يكون له في كل عصور الزمان نظير..




**




وفي العام الثاث والسبعين للهجرة.. مالت الشمس للمغيب، ورفعت احدى سفن الأبدية مراسيها، مبحرة الى العالم الآخر والرفيق الأعلى، حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _في مكة والمدينة_ عبد الله بن عمر بن الخطاب. كان آخر الصحابة رحيلا عن الدنيا كلها أنس بن مالك رضي الله عنه، توفي بالبصرة، عام واحد وتسعين، وقيل عام ثلاث وتسعين.
 
قديم 15/6/2007, 02:44 PM   رقم المشاركة : ( 12 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

new رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

--------------------------------------------------------------------------------

عبدالله بن مسعود -
أول صادح بالقرآن


قبل أن يدخا رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، كان عبدالله بن مسعود قد آمن به، وأبح سادس ستة أسلموا واتبعوا الرسول، عليه وعليهم الصلاة والسلام..

هو اذن من الأوائل المبكرين..

ولقد تحدث عن أول لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

" كنت غلاما يافعا، أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر فقالا: يا غلام،هل عندك من لبن تسقينا..؟؟
فقلت: اني مؤتمن، ولست ساقيكما..

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل عندك من شاة حائل، لم ينز عليها الفحل..؟

قلت: نعم..

فأتيتهما بها، فاعتلفها النبي ومسح الضرع.. ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب فيها، فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم قال للضرع: اقلص، فقلص..

فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد لك، فقلت: علمني من هذا القول.

فقال: انك غلام معلم"...




**




لقد انبهر عبدالله بن مسعود حين رأى عبدالله الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه، ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد، فهذا هو يعطي من خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين..!!

وما كان يدري يومها، أنه انما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا، وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا، وتلمؤها هدى ونور..

بل ما كان يدري يومها، أنه وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط، سيكون احدى هذه المعجزات يوم يخلق الاسلام منه منه مؤمنا بايمانه كبرياء قريش، ويقهر جبروت ساداتها..

فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة الا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد اسلامه الى مجمع الأشراف عند الكعبة، وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله:

(بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن، علّم القرآن، خلق الانسان، علّمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان).

ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش مشدوهون، لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..انما هو أجير واحد منهم، وراعي غنم لشريف من شرفائهم.. عبدالله بن مسعود الفقير المغمور..!!

ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير..

انه الزبير رضي الله عنه يقول:

" كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:

والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه..؟؟

فقال عبدالله بن مسعود:أنا..

قالوا: ان نخشاهم عليك، انما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه..

قال: دعوني، فان الله سيمنعني..

فغدا ابن مسعود حتى اتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ الرحمن.. علم القرآن، ثم استقبلهم يقرؤها..

فتأملوه قائلين: ما يقول ابن ام عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد..

فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا الله أن يبلغ..

ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له:

هذا الذي خشينا عليك..

فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا..

قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون"..!!





أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء، سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله، ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار..!!

ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب..

ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة، وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!!




**




لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة..

بل ولا بعيدا عن الزحام..!!

فلا مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال، ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم، ولا بين الذين أوتوا حظا من الجاه..

فهو من المال معدم.. وهو في الجسم ناحل، ضامر.. وهو في الجاه مغمور..

ولكن الاسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر..!

ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه ارادة تقهر الجبارين، وتسهم في تغيير مصير التاريخ..!

ويمنحه مكان انزوائه وضياعه، خلودا، وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!!

ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له: " انك غلام معلّم" فقد علمه ربه، حتى صار فقيه الأمة، وعميد حفظة القرآن جميعا.

يقول على نفسه:

" أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه زسلم سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد"..

ولكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل ان يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته، والفهم السديد في ادراك معانيه..



ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول:

" تمسّكوا بعهد ابن أم عبد".

ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته،ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن.

يقول عليه السلام:

" من أحب أن يسمع القرآن عصّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"..

" من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!!

ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود..

دعاه يوما الرسول، وقال له:

" اقرأ عليّ يا عبد الله"..

قال عبد الله:

" أقرأ عليك، وعليك أنزل يا رسول الله"؟!

فقال له الرسول:

"اني أحب أن أسمعه من غيري"..

فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل الى قوله تعالى:

(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا..

يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض..

ولا يكتمون الله حديثا)..

فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاضت عيناه بالدموع، وأشار بيده الى ابن مسعود:

أن" حسبك.. حسبك يا ابن مسعود"..



وتحدث هو بنعمة الله فقال:

" والله ما نزل من القرآن شيء الا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا تمتطى اليه الابل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!!



ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:

" لقد ملئ فقها"..

وقال أبو موسى الأشعري:

" لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم"

ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى.

يقول عنه حذيفة:

" ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه، ودلّه، وسمته من ابن مسعود...

ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن ام عبد لأقربهم الى الله زلفى"..!!

واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه فقالوا له:

"يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا من عبدالله بن مسعود..

قال علي:

نشدتكم الله، أهو صدق من قلوبكم..؟؟

قالوا:

نعم..

قال:

اللهم اني أشهدك.. اللهم اني أقول مثل ما قالواو أو أفضل..

لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه..فقيه في الدين، عالم بالسنة"..!



وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يتحدثون عن عبدالله بن مسعود فيقولون:

" ان كان ليؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..

وهم يريدون بهذا، أن عبد الله رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه، فيدخل عليه بيته أكثر مما يدخل غيرهو ويجالسه أكثر مما يجالس سواه. وكان دون غيره من الصّحب موضع سرّه ونجواه، حتى كان يلقب بـ صاحب السواد أي صاحب السر..



يقول أبو موسى الشعري رضي الله عنه:

"لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، وما أرى الا ابن مسعود من أهله"..

ذلك أن النبيب صلى الله عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما، وكان يحب فيه ورعه وفطنته، وعظمة نفسه.. حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:

" لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين، لأمّرت ابن أم عبد"..

وقد مرّت بنا من قبل، وصية االرسول لأصحابه:

" تمسكوا بعهد ابن أم عبد"...



وهذا الحب، وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد لبقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" اذنك عليّ أن ترفع الحجاب"..

فكان هذا ايذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار...

وهكذا قال عنه أصحابه:

" كان يؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..



ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو، من شأنها أن ترفع الكلفة، فان ابن مسعود لم يزدد بها الا خشوعا، واجلالا، وأدبا..

ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده، مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته...



فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام، نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق، خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف..!!



ولنستمع لاخوانه يصفون هذه الظاهرة..

يقول عمرو بن ميمون:

" اختلفت الى عبدالله بن مسعود سنة، ما سمعه يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"..!!

ويقول علقمة بن قيس:

" كان عبدالله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة.. فنظرت اليه وهو معتمد على عصا، فاذا عصاه ترتجف، وتتزعزع"..!!

ويحدثنا مسروق عن عبدالله:

" حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو ذا.. أو شبه ذا"..!!

الى هذا المدى العظيم بلغ اجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ توقيره اياه، وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون امارة تقاه..!!

فالرجل الذي عاصره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرمن غيره، كان ادراكه لجلال هذا الرسول العظيم ادراكا سديدا.. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ومع ذكراه في مماته، أدبا فريدا..!!




**




لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أب جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل.. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله اليهم:

" اني والله الذي لا اله الا هو، قد آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه وتعلموا".

ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله، ولا أحد مثله..

واجماع أهل الكوفة على حب انسان، أمر يشبه المعجزات..

ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة، لا يصبرون على طعام واحد..!! ولا يطيقون الهدوء والسلام..



ولقد بلغ من حبهم اياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفةعثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له:" أقم معنا ولا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه"..

ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه، اذ قال لهم:

" ان له عليّ الطاعة، وانها ستكون أمور وفتن، ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"..!!

ان هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخلبيفةعثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت الامل،، ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة..

بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة..

وحين ترامى الى مسمعه محاولات اغتيال عثمان، قال كلمته المأثورة:

" لئن قتلوه، لا يستخلفون بعده مثله".

ويقولبعض أصحاب ابن مسعود:

" ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط"..




**




ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى.

وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق، والتعبير عنها في أناقة وسداد..

لنستمع له مثلا وهو يلخصحياة عمر العظيمة في تركيزباهر فيقول:

" كان اسلامه فتحا.. وكانت هجرته نصرا.. وكانت امارته رحمة..".

ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول:

" ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.. نور السموات والأرض من نور وجهه"..!!

ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه، فيقول:" اني لأمقت الرجل، اذ أراه فارغا.. ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة"..

ومن كلماته الجامعة:

" خير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى، وشر العمى عمى القلب، وأعظم الخطايا الكذب، وشرّ المكاسب الربا، وشرّ المأكل مال اليتيم، ومن يعف الله عنه، ومن يغفر الله له"..




**




هذا هو عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة، عاشها صاحبها في سبيل الله، ورسوله ودينه..

هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور..!!

نحيف، قصير، يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم..

له ساقان ناحلتان دقيقتان.. صعد بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول اله صلى الله عليه وسلم.. فرأى أصحاب النبي دقتهما فضحكوا، فقال عليه الصلاة والسلام:

" تضحكون من ساقيْ ابن مسعود، لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"..!!

أجل هذا هو الفقير الأجير، الناحل الوهنان.. الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى والنور..

ولقد حظي من توفيق الله ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أولئك الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته..



وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، مع خلفائه من بعده..

وشهد أعظم امبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الاسلام ومشيئته..



ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين، والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم، فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته..



ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين اليها فيرددها، ويتغنى بها، ويتمنى لو أنه أدركها..



ولنصغع اليه يحدثنا بكلماته عنها:

" قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر اليها، فاذا رسول الله، وأبوبكر وعمر، واذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات واذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه اليه، والرسول يقول: ادنيا اليّ أخاكما.. فدلياه اليه، فلما هيأه للحده قال: اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة"..!!




**




تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه.

وهي لا تمت بسبب الى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء، ومنصب وجاه..

ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب، عظيم النفس، وثيق اليقين.. رجل هداه الله، وربّاه الرسول، وقاده القرآن..!!
 
قديم 15/6/2007, 02:45 PM   رقم المشاركة : ( 13 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

new رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

عبدالله بن عباس
- حبر هذه الأمة


يشبه ابن عباس، عبدالله بن الزبير في أنه أدرك الرسول وعاصره وهو غلام، ومات الرسول قبل أن يبلغ ابن عباس سنّ الرجولة.

لكنه هو الآخر تلقى في حداثته كل خامات الرجولة، ومبادئ حياته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤثره، ويزكيه، ويعلّمه الحكمة الخالصة.

وبقوة ايمانه، وقوة خلقه، وغزارة علمه، اقتعد ابن عباس رضي الله عنه مكانا عاليا بين الرجال حول الرسول.


**




هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولقبه الحبر.. حبر هذه الأمة، هيأه لهذا اللقب، ولهذه المنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه، واتساع معارفه.

لقد عرف ابن عباس طريق حياته في أوليات أيامه وازداد بها معرفة عندما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يدنيه منه وهو طفل ويربّت على كتفه وهو يقول:

" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".

ثم توالت المناسبات والفرص التي يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبدالله بن عباس.. وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم، والمعرفة.

وكان استعداده العقلي يدفعه في هذا الطريق دفعا قويا.



فعلى الرغم من أنه لم يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول الله، فانه لم يصنع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهدمجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول..

وبعد ذهاب الرسول الى الرفيق الأعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه..

هنالك، جعل من نفسه علامة استفهام دائمة.. فلا يسمع أن فلانا يعرف حكمة، أو يحفظ حديثا، الا سارع اليه وتعلم منه..

وكان عقله المضيء الطموح يدفعه لفحص كل ما يسمع.. فهو لا يغنى بجمع المعرفة فحسب، بل ويغنى مع جمعها بفحصها وفحص مصادرها..

يقول عن نفسه:

" ان كنت لأسأل عن الأمر الواحد، ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ويعطينا صورة لحرصه على ادراكه الحقيقة والمعرفة فيقول:

" لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لفتى من الأنصار:

هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله، فانهم اليوم كثير.

فقال: يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون اليك، وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى..؟؟

فترك ذلك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله.. فان كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي اليه وهو قائل في الظهيرة، فأتوسّد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك..؟؟ هلا أرسلت اليّ فآتيك..؟؟ فأقول لا، أنت أحق بأن أسعى اليك، فأسأله عنه الحديث وأتعلم منه"..!!

هكذا راح فتانا العظيم يسأل، ويسأل، ويسأل.. ثم يفحص الاجابة مع نفسه، ويناقشها بعقل جريء.

وهو في كل يوم، تنمو معارفه، وتنمو حكمته، حتى توفرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم، وحصافتهم، وحتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحرص على مشورته في كل أمر كبير.. وكان يلقبه بفتى الكهول..!!

سئل ابن عباس يوما:" أنّى أصبت هذا العلم"..؟

فأجاب:

" بلسام سؤل..

وقلب عقول"..

فبلسانه المتسائل دوما، وبعقله الفاحص أبدا، ثم بتواضعه ودماثة خلقه، صار ابن عباس" حبر هذه الأمة..

ويصفه سعد بن أبي وقاص بهذه الكلمات:

" ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا أكبر لبّا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس..

ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس، ولا يجاوز عمر قوله"..

وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال:

" ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس..

ولا رأيت أحدا، أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه..

ولا أفقه في رأي منه..

ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير للقرآن، ولا بحساب وفريضة منه..

ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها..

وما رأيت عالما جلس اليه الا خضع له، ولا سائلا الا وجد عنده علما"..!!




**




ووصفه مسلم من أهل البصرة، وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها للامام عليّ ابن أبي طالب، فقال:

" انه آخذ بثلاث، تارك لثلاث..

آخذ بقلوب الرجال اذا حدّث..

وبحسن الاستماع اذا حدّث..

وبأيسر الأمرين اذا خولف..

وتارك المراء..

ومصادقة اللئام..

وما يعتذر منه"..!!




**




وكان تنوّع ثقافته، وشمول معرفته ما يبهر الألباب.. فهو الحبر الحاذق الفطن في كل علم.. في تفسير القرآن وتأويله وفي الفقه.. وفي التاريخ.. وفي لغة العرب وآدابهم، ومن ثمّ فقد كان مقصد الباحثين عن المعرفة، يأتيه الناس أفواجا من أقطار الاسلام، ليسمعوا منه، وليتفقهوا عليه..

حدّث أحد أصحابه ومعاصريه فقال:

" لقد رأيت من ابن عباس مجلسا، لو أن جميع قريش فخرت به، لكان لها به الفخر..

رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب..

فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءا، فتوضأ وجلس وقال: أخرج اليهم، فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله..فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سالوا عن شيء الا اخبرهم وزاد..

ثم قال لهم: اخوانكم.. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم.

ثم قال لي: أخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام..

فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوا عن شيء الا أخبرهم وزادهم..

ثم قال: اخوانكم.. فخرجوا..

ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض، فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم..

ثم قال لي: ادع من يريد أن يسال عن العربية، والشعر..

فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم"!!



وكان ابن عباس يمتلك الى جانب ذاكرته القوية، بل الخارقة، ذكاء نافذا، وفطنة بالغة..

كانت حجته كضوء الشمس ألقا، ووضوحا، وبهجة.. وهو في حواره ومنطقه، لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب، بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار..

ومع غزارة علمه، ونفاذ حجته، لم يكن يرى في الحوار والمناقشة معركة ذكاء، يزهو فيها بعلمه، ثم بانتصاره على خصمه.. بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية الصواب ومعرفته..

ولطالما روّع الخوارج بمنطقه الصارم العادل..

بعث به الامام عليّ كرّم الله وجهه ذات يوم الى طائفة كبيرة منهم فدار بينه وبينهم حوار رائع وجّه فيه الحديث وساق الحجة بشكل يبهر الألباب..

ومن ذلك الحوار الطويل نكتفي بهذه الفقرة..

سألهم ابن عباس:

" ماذا تنقمون من عليّ..؟"

قالوا:

" ننتقم منه ثلاثا:

أولاهنّ: أنه حكّم الرجال في دين الله، والله يقول ان الحكم الا لله..

والثانية: أنه قاتل، ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارا، فقد حلّت أموالهم، وان كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم..!!

والثالثة: رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، استجابة لأعدائه، فان لم يكن امير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.."

وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال:

" أما قولكم: انه حكّم الرجال في دين الله، فأيّ بأس..؟

ان الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم..

فنبؤني بالله: أتحكيم الرجال في حقن دماء المسلمين أحق وأولى، أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم..؟؟!!

وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم.. واستأنف حبر الأمة حديثه:

" وأما قولكم: انه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا، ويأخذ أسلابها غنائم..؟؟

وهنا كست وجوههم صفرة الخحل، وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم..

وانتقل ابن عباس الى الثالثة:

" وأما قولكم: انه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله الرسول يوم الحديبية، اذ راح يملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش، فقال للكاتب: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك..

فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله.. فقال لهم الرسول: والله اني لرسول الله وان كذبتم.. ثم قال لكاتب الصحيفة: أكتب ما يشاءون: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"..!!

واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز.. وما كاد ينتهي النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا، معلنين اقتناعهم، ومعلنين خروجهم من خصومة الامام عليّ..!!




**




ولم يكن ابن عباس يمتلك هذه الثروة الكبرى من العلم فحسب. بل كان يمتلك معها ثروة أكبر، من أخلاق العلم وأخلاق العلماء.

فهو في جوده وسخائه امام وعلم..

انه ليفيض على الناس من ماله.. بنفس السماح الذي يفيض به عليهم من علمه..!!

ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون:

" ما رأينا بيتا أكثر طعاما، ولا شرابا، ولا فاكهة، ولا علما من بيت ابن عباس"..!!

وهو طاهر القلب، نقيّ النفس، لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا.

وهوايته التي لا يشبع منها، هي تمنّيه الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف من الناس..

يقول عن نفسه:

" اني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم..

واني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له.. ومالي عنده قضيّة..!!

واني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالي بتلك الأرض سائمة..!!"




**




وهو عابد قانت أوّاب.. يقوم من الليل، ويصوم من الأيام، ولا تخطئ العين مجرى الدموع تحت خديّه، اذ كان كثير البكاء كلما صلى.. وكلما قرأ القرآن..

فاذا بلغ في قراءته بعض آيات الزجر والوعيد، وذكر الموت، والبعث علا نشيجه ونحيبه.




**




وهو الى جانب هذا شجاع، أمين، حصيف.. ولقد كان له في الخلاف بين عليّ ومعاوية آراء تدلّ على امتداد فطنته، وسعة حيلته.

وهو يؤثر السلام على الحرب.. والرفق على العنف.. والمنطق على القسر..

عندما همّ الحسين رضي الله عنه بالخروج الى العراق ليقاتل زيادا، ويزيد، تعلق ابن عباس به واستمات في محاولة منعه.. فلما بلغه فيما بعد نبأ استشهاده، أقضّه الحزن عليه، ولزم داره.

وفي كل خلاف ينشب بين مسلم ومسلم، لم تكن تجد ابن عباس الا حاملا راية السلم، والتفاهم واللين..

صحيح أنه خاض المعركة مع الامام عليّ ضد معاوية. ولكنه فعل ذلك لأن المعركة في بدايتها كانت تمثل ردعا لازما لحركة انشقاق رهيبة، تهدد وحدة الدين ووحدة المسلمين.




**




وعاش ابن عباس يمأ دنباه علما وحكمة، وينشر بين الناس عبيره وتقواه..

وفي عامه الحادي والسبعين، دعي للقاء ربه العظيم وشهدت مدينة الطائف مشهدا حافلا لمؤمن يزف الى الجنان.

وبينما كان جثمانه يأخذ مستقره الآمن في قبره، كانت جنبات الأفق تهتز بأصداء وعد الله الحق:

( يا أيتها النفس المطمئنة

ارجعي الى ربك راضية مرضية

فادخلي في عبادي

وادخلي جنتي)
 
قديم 15/6/2007, 02:47 PM   رقم المشاركة : ( 14 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

new رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

أبو موسى الأشعري - الاخلاص.. وليكن ما يكون


عندما بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى البصرة، ليكون أميرها وواليها، جمع أهلها وقام فيهم خطيبا فقال:

" ان أمير المؤمنين عمر بعثني اليكم، أعلمكم كتار بكم، وسنة نبيكم، وأنظف لكم طرقكم"..!!

وغشي الانس من الدهش والعجب ما غشيهم، فانهم ليفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير، أما أن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم، فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب..

فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن رضي الله عنه:

" ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه"..؟

**




انه عبدالله بن قيس المكنّى بـ أبي موسى الأشعري..

غادر اليمن بلده ووطنه الى مكة فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو الى الله على بصيرة، ويأمر بمكارم الأخلاق..

وفي مكة، جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله، ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله، ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيبر..

ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب مقبلا مع أصحابه من الحبشة فأسهم الرسول لهم جميعا..

وفي هذه المرّة لم يأت أبو موسى الأشعري وحده، بل جاء معه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم الاسلام، وأخوان شقيقان له، هم، أبو رهم، وأبو بردة..

وسمّى الرسول هذا الوفد.. بل سمّى قومهم جميعا بالأشعريين..

ونعتهم الرسول بأنهم أرق الناس أفئدة..

وكثيرا ما كان يضرب المثل الأعلى لأصحابه، فيقول فيهم وعنهم:

" ان الأشغريين اذا أرملوا في غزو، أو قلّ في أيديهم الطعام، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموا بالسويّة.

" فهم مني.. وانا منهم"..!!

ومن ذلك اليوم أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين، الذين قدّر لهم أن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته، وأن يكونوا حملة الاسلام الى الدنيا في كل عصورها ودهورها..




**




أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة..

فهو مقاتل جسور، ومناضل صلب اذا اضطر لقتال..

وهو مسالم طيب، وديع الى أقصى غايات الطيبة والوداعة..!!

وهو فقيه، حصيف، ذكي يجيد تصويب فهمه الى مغاليق الأمور، ويتألق في الافتاء والقضاء، حتى قيل:

" قضاة هذه الأمة أربعة:

" عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"..!!

ثم هو مع هذا، صاحب فطرة بريئة، من خدعه في الله، انخدع له..!!

وهو عظيم الولاء والمسؤولية..

وكبير الثقة بالناس..

لو أردنا أن نختار من واقع حياته شعارا، لكانت هذه العبارة:

" الاخلاص وليكن ما يكون"..

في مواطن الجهاد، كان الأشعري يحمل مسؤولياته في استبسال مجيد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلمي يقول عنه:

" سيّد الفوارس، أبو موسى"..!!

وانه ليرينا صورة من حياته كمقاتل فيقول:

" خرجنا مع رسول الله في غزاة، نقبت فيها أقدامنا، ونقّبت قدماي، وتساقطت أظفاري، حتى لففنا أقدامنا بالخرق"..!!

وما كانت طيبته وسلامة طويته ليغريا به عدوّا في قتال..

فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل، ويحسمها في عزم أكيد..



ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس أن هبط الأشعري يجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم..

بيد أنهم في صلحهم ذاك لم يكونوا صادقين.. انما ارادوا أن يهيئوا لأنفسهم الاعداد لضربة غادرة..

ولكن فطنة أبي موسى التي لا تغيب في مواطن الحاجة اليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون.. فلما همّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرّة، وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصارا باهرا..!!




**




وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ امبراطورية الفرس، كان لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، بلاؤه العظيم وجهاده الكريم..

وفي موقعة تستر بالذات، حيث انسحب الهرزمان بجيشه اليها وتحصّن بها، وجمع فيها جيوشا هائلة، كان أبو موسى بطل هذه الموقعة..

ولقد أمدّه أمير المؤمنين عمر يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين، على رأسهم عمار بن ياسر، والبراء بن مالك، وأنس بن مالك، ومجزأة البكري وسلمة بن رجاء..

واتقى الجيشان..

جيش المسلمين بقيادة أبو موسى.. وجيش الفرس بقيادة الهرزمان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأسا..

وانسحب الفرس الى داخل مدينة تستر المحصنة..

وحاصرها المسلمون أياما طويلة، حتى أعمل أبو موسى عقله وحيلته..

وأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي، أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة، أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة.

ولم تكد الأبواب تفتح، وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض أبو موسى بجيشه انقضاضا مدمدما.

واستولى على المعقل الخطير في ساعات. واستسلم قادة الفرس، حيث بعث بهم أبو موسى الى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه..




**




على أن هذا المقاتل ذا المراس الشديد، لم يكن يغادر أرض المعركة حتى يتحوّل الى أوّاب، بكّاء وديع كالعصفور...

يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول:

" لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود"..!

كان عمر رضي الله عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلا له:

" شوّقنا الى ربنا يا أبا موسى"..

كذلك لم يكن يشترك في قتال الا أن يكون ضد جيوش مشركة، جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ نور الله..

أما حين يكون القتال بين مسلم ومسلم، فانه يهرب منه ولا يكون له دور أبدا.

ولقد كان موقفه هذا واضحا في نزاع عليّ ومعاوية، وفي الحرب التي استعر بين المسلمين يومئذ أوراها.

ولعل هذه النقطة من الحديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة، وهو موقفه من التحكيم بين الامام علي ومعاوية.

هذا الموقف الذي كثيرا ما يؤخذ آية وشاهدا على افراط أبي موسى في الطيبة الى حد يسهل خداعه.

بيد أن الموقف كما سنراه، وبرغم ما عسى أن يكون فيه تسرّع أو خطأ، انما يكشف عن عطمة هذا الصحابي الجليل، عظمة نفسه، وعظمة ايمانه بالحق، وبالناس، ان راي أبي موسى في قضية التحكيم يتلخص في أنه وقد رأى المسلمين يقتل بعضهم بعضا، كل فريق يتعصب لامام وحاكم.. كما رأى الموقف بين المقاتلين قد بلغ في تأزمه واستحالة تصفيته المدى الذي يضع مصير الأمة المسلمة كلها على حافة الهاوية.

نقول: ان رأيه وقد بلغت الحال من السوء هذا المبلغ، كان يتلخص في تغيير الموقف كله والبدء من جديد.

ان الحرب الأهلية القائمة يوم ذاك انما تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول شخص الحاكم، فليتنازل الامام علي عن الخلافة مؤقتا، وليتنازل عنها معاوية، على أن يرد الأمر كله من جديد الى المسلمين يختارون بطريق الشورى الخليفة الذي يريدون.

هكذا ناقش أبو موسى القضية، وهكذا كان حله.

صحيح أن عليّا بويع بالخلافة بيعة صحيحة.

وصحيح أن كل تمرد غير مشروع لا ينبغي أن يمكّن من غرضه في اسقاط الحق المشروع. بيد أن الأمور في النزاع بين الامام ومعاوية وبين أهل العراق وأهل الشام، في رأي أبي موسى، قد بلغت المدى الذي يفرض نوعا جديدا من التفكير والحلول.. فعصيان معاوية، لم يعد مجرّد عصيان.. وتمرّد أهل الشام لم يعد مجرد تمرد.. والخلاف كله يعود مجرد خلاف في الرأي ولا في الاختيار..

بل ان ذلك كله تطوّر الى حرب أهلية ضارية ذهب ضحيتها آلاف القتلى من الفريقين.. ولا تزال تهدد الاسلام والمسلمين بأسوأ العواقب.

فازاحة أسباب النزاع والحرب، وتنحية أطرافه، مثّلا في تفكير أبي موسى نقطة البدء في طريق الخلاص..

ولقد كان من رأي الامام علي حينما قبل مبدأ التحكيم، أن يمثل جبهته في التحكيم عبدالله بن عباس، أو غيره من الصحابة. لكن فريقا كبيرا من ذوي البأس في جماعته وجيشه فرضا عليه أبا موسى الأشعري فرضا.

وكانت حجتهم في اختيار أبا موسى أنه لم يشترك قط في النزاع بين علي ومعاوية، بل اعتزل كلا الفريقين بعد أن يئس من حملهما على التفاهم والصلح ونبذ القتال. فهو بهذه المثابة أحق الناس بالتحكيم..

ولم يكن في دين أبي موسى، ولا في اخلاصه وصدقه ما يريب الامام.. لكنه كان يدرك موايا الجانب الآخر ويعرف مدى اعتمادهم على المناورة والخدعة. وأبو موسى برغم فقهه وعلمه يكره الخداع والمناورة، ويحب أن يتعامل مع الناس بصدقه لا بذكائه. ومن ثم خشي الامام علي أن ينخدع أبو موسى للآخرين، ويتحول التحكيم الى مناورة من جانب واحد، تزيد الأمور سوءا...




**




بدأ التحيكم بين الفريقين..

أبو موسى الأشعري يمثل جبهة الامام علي..

وعمرو بن العاص، يمثل جانب معاوية.

والحق أن عمرو بن العاص اعتمد على ذكائه الحاد وحيلته الواسعة في أخذ الراية لمعاوية.

ولقد بدأ الاجتماع بين الرجلين، الأشعري، وعمرو باقتراح طرحه أبو موسى وهو أن يتفق الحكمان على ترشيح عبدالله بن عمر بل وعلى اعلانه خليفة للمسلمين، وذلك لما كان ينعم به عبدالله بن عمر من اجماع رائع على حبه وتوقيره واجلاله.

ورأى عمرو بن العاص في هذا الاتجاه من أبي موسى فرصة هائلة فانتهزها..

ان مغزى اقتراح أبي موسى، أنه لم يعد مرتبطا بالطرف الذي يمثله وهو الامام علي..

ومعناه أيضا أنه مستعد لاسناد الخلافة الى آخرين من أصحاب الرسول بدليل أنه اقترح عبدالله بن عم..

وهكذا عثر عمرو بدهائه على مدخل فسيح الى غايته، فراح يقترح معاوية.. ثم اقترح ابنه عبدالله بن عمرو وكان ذا مكانة عظيمة بين أصحاب رسول الله.

ولك يغب ذكاء أبي موسى أمام دهاء عمرو.. فانه لم يكد يرى عمرا يتخذ مبدأ الترشيح قاعدة الترشيح للحديث والتحكيم حتى لوى الزمام الى وجهة أسلم، فجابه عمرا بأن اختيار الخليفة حق للمسلمين جميعا، وقد جعل الله أمرهم شورى بينهم، فيجب أن يترك الأمر لهم وحدهم وجميعهم لهم الحق في هذا الاختيار..

وسوف نرى كيف استغل عمرو هذا المبدأ الجليا لصالح معاوية..

ولكن قبل ذلك لنقرأ نص الحوار التاريخي الذي دار بين أبي موسى وعمرو بن العاص في بدء اجتماعهما:

أبو موسى: يا عمرو، هل لك في صلاح الأمة ورضا الله..؟

عمرو: وما هو..؟

أبو موسى: نولي عبدالله بن عمر، فانه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحرب.

عمرو: وأين أنت من معاوية..؟

أبو موسى: ما معاوية بموضع لها ولا يستحقها.

عمرو: ألست تعلم أن عثمان قتل مظلموا..؟

أبو موسى: بلى..

عمرو: فان معاوية وليّ دم عثمان، وبيته في قريش ما قد علمت. فان قال الناس لم أولي الأمر ولست سابقة؟ فان لك في ذلك عذرا. تقول: اني وجدته ولي عثمان، والله تعالى يقول: ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).. وهو مع هذا، اخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد أصحابه..

أبو موسى: اتق الله يا عمرو..

أمّا ما ذكرت من شرف معاوية، فلو كانت الخلافة تستحق بالشرف لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصبّاح فانه من أبناء ملوك اليمن التباعية الذين ملكوا شرق الأرض ومغربها.. ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب..؟؟

وأما قولك: ان معاوية ولي عثمان، فأولى منه عمرو بن عثمان..

ولكن ان طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره، بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر..

عمرو: فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته..؟

أبو موسى: ان ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا، فهلم نجعلها للطيّب بن الطيّب.. عبدالله بن عمر..

عمرو: يا أبا موسى، انه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما، ويطعم بالآخر..!!

أبو موسى: ويحك يا عمرو.. ان المسلمين قد أسندوا الينا الأمر بعد أن تقارعوا السيوف، وتشاكوا بالرماح، فلا نردهم في فتنة.

عمرو: فماذا ترى..؟أبو موسى: أرى أن نخلع الرجلين، عليّا ومعاوية، ثم نجعلها شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من يحبوا..

عمرو: رضيت بهذا الرأي فان صلاح النفوس فيه..

ان هذا الحوار يغير تماما وجه الصورة التي تعوّدنا أن نرى بها أبا موسى الأشعري كلما ذكرنا واقعة التحكيم هذه..

ان أبا موسى كان أبعد ما يكون عن الغفلة..

بل انه في حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء عمرو بن العاص المشهور بالذكاء والدهاء..

فعندما أراد عمرو أن يجرّع أبا موسى خلافة معاوية بحجة حسبه في قريش، وولايته لدم عثمان، جاء رد أبي موسى حاسما لامعا كحد السيف..

اذا كانت الخلافة بالشرف، فأبرهة بن الصباح سليل الملوك أولى بها من معاوية..

واذا كانت بدم عثمان والدفاع عن حقه، فابن عثمان رضي الله عنه، اولى بهذه الولاية من معاوية..




**




لقد سارت قضية التحيكم بعد هذا الحوار في طريق يتحمّل مسؤليتها عمرو بن العاص وحده..

فقد أبرأ أبو موسى ذمته بردّ الأمر الى الأمة، تقول كلمتها وتخنار خليفتها..

ووافق عمرو والتزم بهذا الرأي..

ولم يكن يخطر ببال أبي موسى أن عمرو في هذا الموقف الذي يهدد الاسلام والمسلمين بشر بكارثة، سيلجأ الى المناورة، هما يكن اقتناعه بمعاوية..

ولقد حذره ابن عباس حين رجع اليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه..

حذره من مناورات عمرو وقال له:

" أخشى والله أن يكون عمرو قد خدعك، فان كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم، ثم تكلم أنت بعده"..!

لكن أبا موسى كان يرى الموقف أكبر وأجل من أن يناور فيه عمرو، ومن ثم لم يخالجه أي ريب أوشك في التزام عمرو بما اتفقنا عليه..

واجتمعا في اليوم التالي.. أبو موسى ممثلا لجبهة الامام علي، وعمرو بن العاص ممثلا لجبهة معاوية..

ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث.. فأبى عمرو وقال له:


" ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا.. وأقدم هجرة.. وأكبر سنا"..!!

وتقد أبو موسى واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين.

وقال:

" أيها الناس.. انا قد نظنا فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة، ويصلح أمرها، فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين علي ومعاوية، وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها..

واني قد خلعت عليا ومعاوية..

فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم"...

وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية، كما خلع أبو موسى عليا، تنفيذا للاتفاق المبرم بالأمس...

وصعد عمرو المنبر، وقال:

" أيها الناس، ان أبا موسى قد قال كما سمعتم وخلع صاحبه،

ألا واني قد خلعت صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فانه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه.."!!

ولم يحتمل أبو موسى وقع المفاجأة، فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة..

وعاد من جديد الى عزلته، وأغذّ خطاه الى مكة.. الى جوار البيت الحرام، يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام..

كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه، وموضع ثقة خلفائه واصحابه وحبهم...

ففيحياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن..

وبعد وفاة الرسول عاد الى المدينة ليجمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الاسلام ضد فارس والروم..

وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة..

وولاه الخليفة عثمان الكوفة..




**




وكان من أهل القرآن، حفظا، وفقها، وعملا..

ومن كلماته المضيئة عن القرآن:

" اتبعوا القرآن..

ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن"..!!

وكان من اهل العبادة المثابرين..

وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس، كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول:

" لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة"..




**




وذات يوم رطيب جاءه أجله..

وكست محيّاه اشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه.ز

والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة، راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها.ز

تلك هي:

" اللهم أنت السلام..ومنك السلام"...
 
قديم 15/6/2007, 02:48 PM   رقم المشاركة : ( 15 )
فارس العايدى
مـهـند س مـحـتـرف

الصورة الرمزية فارس العايدى

الملف الشخصي
رقم العضوية : 40446
تاريخ التسجيل : Nov 2006
العمـر :
الجنـس :
الدولـة :
المشاركات : 1,202 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 25
قوة الترشيـح : فارس العايدى يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

فارس العايدى غير متصل

new رد: صحابه الرسول صلى الله عليه وسلم

عمرو بن العاص -
محرّر مصر من الرومان

كانوا ثلاثة في قريش، اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعنف مقاومتهم دعوته وايذائهم أصحابه..

وراح الرسول يدعو عليهم، ويبتهل الى ربه الكريم أن ينزل بهم عقابه..

واذ هو يدعو ويدعو، تنزل الوحي على قلبه بهذه الآية الكريمة..

( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم، فانهم ظالمون)..

وفهم الرسول من الآية أنها أمر له بالكف عن الدعاء عليهم، وترك أمرهم الى الله وحده..

فامّا أن يظلوا على ظلمهم، فيحلّ بهم عذابه..

أو يتوب عليهم فيتوبوا، وتدركهم رحمته..

كان عمرو بن العاص أحد هؤلاء الثلاثة..
ولقد اختار الله لهم طريق التوبة والرحمة وهداهم الى الاسلام..

وتحول عمرو بن العاص الى مسلم مناضل. والى قائد من قادة الاسلام البواسل..

وعلى الرغم من بعض مواقف عمرو التي لا نستطيع أن نقتنع بوجهة نظره فيها، فان دوره كصحابيّ جليل بذل وأعطى، ونافح وكافح، سيظل يفتح على محيّاه أعيننا وقلوبنا..

وهنا في مصر بالذات، سيظل الذين يرون الاسلام دينا قيما مجيدا..

ويرون في رسوله رحمة مهداة، ونعمة موجاة، ورسول صدق عظيم، دعا الى الله على بصيرة، وألهم الحياة كثيرا من رشدها وتقاها..

سيظل الذين يحملون هذا الايمان مشحوذي الولاء للرجل الذي جعلته الأقدار سببا، وأي سبب، لاهداء الاسلام الى مصر، واهداء مصر الى الاسلام.. فنعمت الهداية ونعم مهديها..

ذلكم هو: عمرو بن العاص رضي الله عنه..

ولقد تعوّد المؤرخون أن ينعتوا عمرا بـ فاتح مصر..

بيد أنا نرى في هذا الوصف تجوزا وتجاوزا، ولعل أحق النعوت بعمرو أن ندعوه بـ محرر مصر..

فالاسلام لم يكن يفتح البلاد بالمفهوم الحديث للفتح، انما كان يحررها من تسلط امبراطوريتين سامتا العباد والبلاد سوء العذاب، تانك هما:

امبراطورية الفرس.ز وامبراطورية الروم..

ومصر بالذات، يوم أهلت عليها طلائع الاسلام كانت نهبا للرومان وكان أهلها يقاومون دون جدوى..

ولما دوّت فوق مشارف بلادهم صيحات الكتائب المؤمنة أن:

" الله أكبر..

الله أكبر"..

سارعوا جميعا في زحام مجيد صوب الفجر الوافد وعانقوه، واجدين فيه خلاصهم من قيصر ومن الرومان..

فعمرو بن العاص ورجاله، لم يفتحوا مصر اذن.. انما فتحوا الطريق أمام مصر لتصل بالحق مصايرها.. وتربط بالعدل مقاديرها.. وتجد نفسها وحقيقتها في ضوء كلمات الله، ومبادئ الاسلام..

ولقد كان رضي الله عنه حريصا على أن يباعد أهل مصر وأقباطها عن المعركة، ليظل القتال محصورا بينه وبين جنود الرومان الين يحتلون البلاد ويسرقون أرزاق أهلها..

من أجل ذلك نجده يتحدث الى زعماء النصارى يومئذ وكبار أشاقفتهم، فيقول:

"... ان الله بعث محمدا بالحق وأمره به..

وانه عليه الصلاة والسلام، قد أدّى رسالته، ومضى بعد أن تركنا على الواضحة أي الطريق الواضح المستقيم..

وكان مما أمرنا به الاعذار الى الناس، فنحن ندعوكم الى الاسلام..

فمن أجابنا، فهو منا، له ما لنا وعليه ما علينا..

ومن لم يجبنا الى الاسلام، عرضنا عليه الجزية أي الضرائب وبذلنا له الحماية والمنعة..

ولقد أخبرنا نبينا أن مصر ستفتح علينا، وأوصانا بأهلها خيرا فقال:" ستفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا، فان لهم ذمّة ورحما"..

فان أجبتمونا الى ما ندعوكم اليه كانت لكم ذمة الى ذمة"...

وفرغ عمرو من كلماته، فصاح بعض الأساقفة والرهبان قائلا:

" ان الرحم التي أوصاكم بها نبيّكم، لهي قرابة بعيدة، لا يصل مثلها الا الأنبياء"..!!

وكانت هذه بداية طيبة للتفاهم المرجو بين عمرو أقباط مصر.. وان يكن قادة الرومان قد حاولوا العمل لاحباطها..




**




وعمرو بن العاص لم يكن من السابقين الى الاسلام، فقد أسلم مع خالد بن الوليد قبيل فتح مكة بقليل..
ومن عجب أن اسلامه بدأ على يد النجاشي بالحبشة وذلك أن النجاشي يعرف عمرا ويحترمه بسبب تردده الكثير على الحبشة والهدايا الجزيلة التي كان يحملها للنجاشي، وفي زيارته الأخيرة لتلك البلاد جاء ذكر لرسول الذي يهتف بالتوحيد وبمكارم الأخلاق في جزيرة العرب..

وسأل عاهل الحبشة عمرا، كيف لم يؤمن به ويتبعه، وهو رسول من الله حقا..؟؟

وسأل عمرو النجاشي قائلا:

" أهو كذلك؟؟"

وأجابه النجاشي:

" نعم، فأطعني يا عمرو واتبعه، فانه والله لعلى الحق، وليظهرنّ على من خالفه"..؟!

وركب عمرو ثبج البحر من فوره، عائدا الى بلاده، وميمّما وجهه شطر المدينة ليسلم لله رب العالمين..

وفي الطريق المقضية الى المدينة التقى بخالد بن الوليد قادما من مكة ساعيا الى الرسول ليبايعه على الاسلام..

ولك يكد الرسول يراهما قادمين حتى تهلل وجهه وقال لأصحابه:

" لقد رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها"..

وتقدم خالد فبايع..

ثم تقدم عمرو فقال:

" اني أبايعك على أن يغفر الله لي ما تقدّم من ذنبي"..

فأجابه الرسول عليه السلام قائلا:

" يا عمرو..

بايع، فان الاسلام يجبّ ما كان قبله"..

وبايع عمرو ووضع دهاءه وشجاعته في خدمة الدين الجديد.

وعندما انتقل الرسول الى الرفيق الأعلى، كان عمرو واليا على عمان..

وفي خلافة عمر أبلى بلاءه المشهود في حروب الشام، ثم في تحرير مصر من حكم الرومان.




**




وياليت عمرو بن العاص كان قد قاوم نفسه في حب الامارة..

اذن لكان قد تفوّق كثيرا على بعض المواقف التي ورّطه فيها الحب.

على أن حب عمرو الامارة، كان الى حد ما، تعبيرا تلقائيا عن طبيعته الجياشة بالمواهب..

بل ان شكله الخارجي، وطريقته في المشي وفي الحديث، كانت تومي الى أنه خلق للامارة..!! حتى لقد روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رآه ذات يوم مقبلا، فابتسم لمشيته وقال:

" ما ينبغي لأبي عبدالله أن يمشي على الأرض الا أميرا"..!

والحق أن أبا عبدالله لم يبخس نفسه هذا الحق..

وحتى حين كانت الأحداث الخطيرة تجتاح المسلمين.. كان عمرو يتعامل مع هذه الأحداث بأسلوب أمير، أمير معه من الذكاء والدهاء، والمقدرة ما يجعله واثقا بنفسه معتزا بتفوقه..!!

ولكن معه كذلك من الأمانة ما جعل عمر بن الخطاب وهو الصارم في اختيار ولاته، واليا على فلسطين والأردن، ثم على مصر طوال حياة أمير المؤمنين عمر...

حين علم أمير المؤمنين عمر أن عمرا قد جاوز في رخاء معيشته الحد الذي كان أمير المؤمنين يطلب من ولاته أن يقفوا عنده، ليظلوا دائما في مستوى، أو على الأقل قريبين من مستوى عامة الناس..

نقول: لو علم الخليفة عن عمرو كثرة رخائه، لم يعزله، انما أرسل اليه محمد بن مسلمة وأمره أن يقاسم عمرا جميع أمواله وأشيائه، فيبقي له نصفها ويحمل معه الى بيت المال بالمدينة نصفها الآخر.

ولو قد علم أمير المؤمنين أن حب عمرو للامارة، يحمله على التفريط في مسؤولياته، لما احتمل ضميره الرشيد ابقاءه في الولاية لحظة.




**




وكان عمرو رضي الله عنه حادّ الذكاء، قوي البديهة عميق الرؤية..

حتى لقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، كلما رأى انسانا عاجز الحيلة، صكّ كفيّه عجبا وقال:

" سبحان الله..!!

ان خالق هذا، وخالق عمرو بن العاص اله واحد!!

كما كان بالغ الجرأة مقداما

ولقد كان يمزج جرأته بدهائه في بعض المواطن، فيظن به الجبن أو الهلع.. بيد أنها سعة الحيلة، كان عمرو يجيد استعمالها في حذق هائل ليخرج نفسه من المآزق المهلكة..!!

ولقد كام أمير المؤمنين عمر يعرف مواهبه هذه ويقدرها قدرها، من أجل ذلك عندما أرسله الى الشام قبل مجيئه الى مصر، قيل لأمير المؤمنين: ان على رأس جيوش الروم بالشام أرطبونا أي قائدا وأميرا من الشجعان الدهاة، فكان جواب عمر:

" لقد رمينا أرطبون الروم، بأرطبون العرب، فلننظر عمّ تنفرج الأمور"..!!

ولقد انفرجت عن غلبة ساحقة لأرطبون العرب، وداهيتهم الخطير عمرو ابن العاص، على أرطبون الروم الذي ترك جيشه للهزيمة وولى هاربا الى مصر، التي سيلحقه بها عمرو بعد قليل، ليرفع فوق ربوعها الآمنة راية الاسلام.




**




وما أكثر المواقف التي تألق فيها ذكاء عمرو ودهاؤه.

وان كنا لا نحسب منها بحال موقفه من أبي موسى الأشعري في واقعة التحكيم حين اتفقا على أن يخلع كل منهما عليا ومعاوية، ليرجع الأمر شورى بين المسلمين، فأنفذ أبو موسى الاتفاق، وقعد عن انفاذه عمرو.

واذا اردنا أن نشهد صورة لدهائه، وحذق بديهته، ففي موقفه من قائد حصن بابليون أثناء حربه مع الرومان في مصر وفي رواية تاريخية أخرى أنها الواقعة التي سنذكرها وقعت في اليرموك مع أرطبون الروم..

اذ دعاه الأرطبون والقائد ليحادثه، وكان قد أعطى أمرا لبعض رجاله بالقاء صخرة فوقه اثر انصرافه من الحصن، وأعدّ كل شيء ليكون قتل عمرو أمرا محتوما..

ودخل عمرو على القائد، لا يريبه شيء، وانفض لقاؤهما، وبينما هو في الطريق الى خارج الحصن، لمح فوق أسواره حركة مريبة حركت فيه حاسة الحذر بشدّة.

وعلى الفور تصرّف بشكل باهر.

لقد عاد الى قائد الحصن في خطوات آمنة مطمئنة وئيدة ومشاعر متهللة واثقة، كأن لم يفرّعه شيء قط، ولم يثر شكوكه أمر!!

ودخل على القائد وقال له:

لقد بادرني خاطر أردت أن أطلعك عليه.. ان معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول السابقين الى الاسلام، لا يقطع أمير المؤمنين أمرا دونمشورتهم، ولا يرسل جيشا من جيوش الاسلام الا جعلهم على رأس مقاتلته وجنوده، وقد رأيت أن آتيك بهم، حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة..

وأدرك قائد الروم أن عمرا بسذاجة قد منحه فرصة العمر..!!

فليوافقه اذن على رأيه، حتى اذا عاد ومعه هذا العدد من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقوادهم، أجهز عليهم جميعا، بدلا من أن يجهز على عمرو وحده..

وبطريقة غير منظورة أعطى أمره بارجاء الخطة التي كانت معدّة لاغتيال عمرو..

ودّع عمرو بحفاوة، وصافحه بحرارة،

وابتسم داهية العرب، وهو يغادر الحصن..



وفي الصباح عاد عمرو على رأس جيشه الى الحصن، ممتطيا صهوة فرسه، التي راحت تقهقه في صهيل شامت وساخر.

أجل فهي الأخرى كانت تعرف من دهاء صاحبها الشيء الكثير..!!




**




وفي السنة الثالثة والأربعين من الهجرة أدركت الوفاة عمرو بن العاص بمصر، حيث كان واليا عليها..

وراح يستعرض حياته في لحظات الرحيل فقال:

".. كنت أول أمري كافرا.. وكنت أشد الناس على رسول الله، فلو مت يومئذ لوجبت لي النار..

ثم بايعت رسول الله، فما كان في الناس أحد أحب اليّ منه، ولا أجلّ في عيني منه.. ولو سئلت أن أنعته ما استطعت، لأني لم أكن أقدر أن أملأ عيني منه اجلالا له.. فلو متّ يومئذ لرجوت أن أكون من أهل الجنة..

ثم بليت بعد ذلك بالسلطان، وبأشياء لاأدري أهي لي أم عليّ"..




**




ثم رفع بصره الى السماء في ضراعة، مناجيا ربه الرحيم العظيم قائلا:

" اللهم لا بريء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر،

والا تدركني رحمتك أكن من الهالكين"!!

وظل في ضراعاته، وابتهالاته حتى صعدت الى الله روحه. وكانت آخر كلماته لا اله الا الله..



وتحت ثرى مصر، التي عرّفها عمرو طريق الاسلام، ثوى رفاته..

وفوق أرضها الصلبة، لا يزال مجلسه حيث كان يعلم، ويقضي ويحكم.. قائما عبر القرون تحت سقف مسجده العتيق جامع عمرو، أول ميجد في مصر يذكر فيه اسم الله الواحد الأحد، وأعلنت بين أرجائه ومن فوق منبره كلمات الله، ومبادئ الاسلام.
 
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:29 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

Google Adsense Privacy Policy | سياسة الخصوصية لـ جوجل ادسنس

الساده الاعضاء و زوار منتديات المهندسين العرب الكرام , , مشاهده القنوات الفضائيه بدون كارت مخالف للقوانين والمنتدى للغرض التعليمى فقط

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML

^-^ جميع آلمشآركآت آلمكتوبهـ تعبّر عن وجهة نظر صآحبهآ ,, ولا تعبّر بأي شكلـ من آلأشكآل عن وجهة نظر إدآرة آلمنتدى ~