|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
بعد انقشاع الغبار
بعد انقشاع الغبار
كل اكتشاف جديد يثير زوبعة.. ومن طبيعة الزوابع أن تثير الكثير من الغبار ... وربما كان القرن العشرون بين أكثر القرون التي عرفها التاريخ إثارة للزوابع.. فقد ورث هذا القرن الكثير من المشكلات التي طرحها القرن التاسع عشر.. وقد خيل للعلماء وقادة الفكر وللساسة، ولاصحاب النظريات الفنية والأدبية أنهم سيحسمون كل المشكلات دفعة واحدة .. وها نحن اولاء نقرع باب القرن الحادي والعشرين وفي حقائبنا من المشكلات التي سنورثها للآتين أكثر مما ورثنا من القرون الخوالي. وربما كانت مأثرة الفكر البشري الكبرى ومطمحه الاسمى منذ عهد الاساطير الاولى وحتى أيامنا، هي سعيه إلى تكوين نظريات كاملة شاملة تجيب عن كل الاسئلة التي يمكن أن تطرح في كل الامكنة وفي كل الأزمنة.. والمؤسف أن مفخرته ومأثرته كانت ومازالت احدى الثغرات فيه، وربما كانت نقطة ضعفه الاساسية.. فالنظريات الكلية لاتكون كذلك إلا إذا أغلقت دائرة النظر، ودوائر النظر المغلقة، أياً كانت رحابة آفاقها وآمادها، ستبقى دوائر مغلقة... ولن تكون أكثر من ذلك .. وإذا كانت كل دائرة من دوائر النظريات تحتوي على شيء فمن غير المنطقي أن تحتوي احداها على كل شيء.. والمفترض أن تكون النظرية خلاصة للخلاصات التي وصلت إليها العلوم في مرحلة معينة من مراحل تطورها، لكن التخصصات الضيقة منذ بدايات هذا القرن، أو قبلها، تخرق هذه القاعدة الأساسية، أو المفترض أن تكون أساسية، وبدأنا نرى الاجزاء تزعم أنها بديل الكل، فصار الانسان مجموعة من العقد الجنسية في نظر الفرويدية، واختزل المجتمع إلى وسائل الانتاج في النظريات الاقتصادية - الاجتماعية، فصار الاساس بديلاُ للبناء بكامله.. ونسي الكثيرون أن حتى الاساس لايمكن أن يكون أكثر من أساس، وأن حتى الهيكل العظمي الذي هو مرتكز الجسد الانساني ليس أكثر من هيكل عظمي.. وكما جعل فرويد اللاشعور أساس العالم الروحي والابداعي للانسان، واختصر اللاشعور إلى مايخص العقد الجنسية وحدها، فان أصحاب المدارس النقدية والأدبية قد أصيبوا بهذه العدوى وظلوا يعانون من حماها ولايزالون.. وكانت الحمى مصحوبة بالكثير من الحماسة والحميا.. وتعالى الكثير من الغبار في شتى الميادين .. وأرخى الكثيرون لمهار مخيلاتهم العنان.. وبلغت صرخات دعاواهم أجواز الفضاء.. وكثرت المزاعم.. صارت كل مدرسة تزعم أنها قالت الكلمة الاخيرة ..ونسي الجميع، في غمرة الحماسة أو بتأثير الحمى، أن الكلمة الأخيرة لن تقال أبداً.. ودخلت البنيوية المعمعة بطبول وأبواق، كي لايضيع صوتها وسط الصخب.. وكان لها فرسانها الذين صالوا وجالوا على هواهم، وبلغت صيحاتهم أسماع دارسي الأدب عندنا فشحذوا أقلامهم على مسنها وراحوا ينافحون عنها. وقد برز بينهم دارسون موهوبون ومجتهدون أدوا لثقافتنا الحديثة خدمات لاينكرها إلا مكابر مسرف في تجاهله. وبقيت المسألة هي هي.. فنحن جميعاً ننسى أن ما نأتي به هو المكمل لماأتى أو يأتي به سوانا وليس نقيضه، إنه الاضافة إلى وليس البديل عن، وهنا أيضاً كانت نقطة ضعف البنيوية، وهنا كان أساس مشكلة البنيويين، إذ حاولوا عزل النص عزلاً تاماً عن زمانه ومكانه ودراسته لذاته وبذاته ناسين أو متناسين أنه قد ولد في زمن محدد تاريخياً، وفي بيئة بعينها. والعمل الابداعي ليس تاريخاً، لكنه لايمكن أن يولد خارج التاريخ ولايمكن أن يخرج من تاريخيته بمعنى أن لايعلق به شيء من ملامح زمانه، وهو ليس فرعاً من فروع علم الاجتماع أو علم النفس لكنه لايولد بعيداً جداً عن هذين العلمين ولابعيداً عن سواهما من العلوم الانسانية أو الطبيعية.ونسوا أيضاً أن للغة تاريخها.. وكما أن القديم لايصير قديماً كله، دفعة واحدة، كذلك هي حال الجديد، فهو لايكون جديداً كله، ففي كل جديد شيء من القديم، وتاريخ الأفكار والنظريات كلها يشهد على ذلك . والنظريات الأدبية لاتولد أدبية صرفاً بل تولد معها أوقبلها نظريات لها سمات النظر العلمي الفكري، فالحداثة كانت حداثة في الفكر الفلسفي وفي نظريات العلوم أساساً، وكانت الحداثة في الأدب كنظرية رديفاً للحداثة الأخرى الأساس. وكثيراً ماتطبق النظريات في الممارسة الابداعية، أقصد الأدبية والفنية كنوع من البرهنة على شمول النظرية الفكرية- العلمية شتى الميادين، وهذا لايعني أن ليس للمبدعين قصبات سبق في هذا الجانب أو ذاك، إذ كثيراً ماتكون عناصرالنظرية الرئيسة في هذا الميدان الابداعي أو غيره قد وردت متفرقة قبل أن يخطر للمنظرين لملمة هذه العناصر وشد بعضها إلى بعض... وتكون العناصر المتناثرة في الابداع نضرة غضة، وحين يعالجها المنظرون تصبح جافة.. وشتان مابين عذوبة القصائد وجفاف علم العروض.. لقد أفاد علم العروض النظاّمين وحتى الشعراء، لكنه لم يصبح شعراً ولابديلاُ للشعر، بل ماكان له أن يوجد لو لم يكن ثمة أجيال وأجيال من الشعراء، والكثير الكثير من الشعر... هل تراني مضيت بعيداً فخرجت عن الموضوع ؟ لا فالشعر هنا مثال لاأكثر.. الشعر هنا هو الصورة الحية للحياة والعروض، كمثال، نظرة تنظيرية جزئية، واحادية الجانب إلى الشعر.. وكما في الشعر كذلك في الحياة لن تكون النظريه أكثر من نظرة جزئية واحادية الجانب إلى الحياة -ولهذا ستبقى نظرة قاصرة -وأما النظرة إلى الحياة والكون بكل أبعادهما ومن جوانبهما كلها فأمر فوق طاقة البشر في مثل هذه المرحلة من مراحل تطورهم، وفي مراحل تطورهم المنظورة.ولقد رأى، يونغ، تلميذ فرويد النبيه ضيق أفق أو محدودية نظرية فرويد فحاول تعميقها وتوسيعها، مع أحترامه الكبير لاستاذه، وتقديره لجهوده، فحورب من رفاقه.. وقد حورب آخرون وسيحارب أخرون، في الميادين الاخرى، لكن العلم سيتقدم والنظرات ستغتني وتتكامل، والافاق ستتسع.. ومع أنقشاع الغبار شيئاً فشيئاً بدأنا نرى الفرويديين، أو بعضهم، بدأوا يأخذون بطرف من التحليل الماركسي، وصار الماركسيون يأخذون بطرف من الفرويدية والبنيوية، ويتكلم واقعيون اشتراكيون على (رومانسية ثورية) كما أن البنيويين بدأوا يفككوون البنيوية وصار البنيويون، أو بعضهم، يتكئون أيضاً على شيء من عناصر الماركسية والفرويدية وغيرها.. هل في الامر شيء من التلفيقية؟ لا.. ليست تلفيقية وإنما هي أبتكارات الذهن البشري يكمل بعضها بعضاً، على الرغم من إنها تبدو للوهلة الأولى متعارضة.. إنها وجهات نظر في الحياة من زوايا نظر مختلفة، وقد تخدم فئات اجتماعية ذات مصالح اجتماعية متعارضة، لكن العنصر المشترك فيها هو كونها نتاج جهد الذهن البشري الذي يبحث عن الحقيقة، وإن كنا لاننكر أن كثيرين قد عملوا عامدين على طمس الحقيقة أو إخفائها وراء الغبار الذي افتُعلت إثارته. تبقى مسألة أخيرة هي : لكن، هل سينجلي الغبار تماماً وتصفو الاجواء تماماً؛ أو هل ستهدأ الزوابع؟ هذا محال.. لا لأن الماضي مستمر في الحاضر وسيستمر هو والحاضر في المستقبل فحسب، بل لأن زوايا النظر إلى الأمور ستظل متباينة تبعاً للمصالح ولغير المصالح أيضاً، وستثور زوابع جديدة وسوف يتصاعد الغبار والدخان، وقد يرافقها الضباب الكثيف، وستبقى للشمس فرجة تطل منها على الناس المنهمكين في البحث عنها والتوجه نحوها. المهم بعد كل زوبعة أن يستطيع الفكر المستنير إحصاء النتائج واستخلاص الزبدة بروية وموضوعية، وحينئذ ستكون الخطوة إلى الأمام أكبر ... مع ان الدرب سيمتد إلى اللانهاية. |
5/7/2011, 07:19 AM | رقم المشاركة : ( 5 ) | ||||
مـهـند س مـمـيـز
|
رد: بعد انقشاع الغبار
|
||||
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
Google Adsense Privacy Policy | سياسة الخصوصية لـ جوجل ادسنس
^-^ جميع آلمشآركآت آلمكتوبهـ تعبّر عن وجهة نظر صآحبهآ ,, ولا تعبّر بأي شكلـ من آلأشكآل عن وجهة نظر إدآرة آلمنتدى ~