|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
ان كنت تهتم بلادب فمن هو هنرى ميلر
لم تعرف الآداب الانكلوسكسونيّة سخصيّات قلقة ، جنونية على النمط الي عرفته فنون و آداب القارة العجوز كما كانت تن أواخر القرن التاسع عشر، و أوائل القرن العشرين,, لم تعرف انكلترا و لا أميركا نموذج رامبو المتشردبين رياح قبرص الحبيبة و زهور أثيوبيا الوحشيّة، المتفتحة تحت أقدامه هو الذي تزخررؤاه بمخاضات، و ثلوج، و عابات الشمال .. لم تعرف الآداب الانكلوسكسونية فان خوخ، و لا نيتشة و لا انطونان أرتو نزيل المصحات العقلية، لم تعرف هلدرلين الذي صعقته آلهة الأولمب فلم يحتمل حوار الالهة فذهل عن العالم أربعين سنة في بيت النجار الطيب الذي كفله إلى آخر أيامه.. لم تعرف الآداب الانكلوسكسونية الدادا، و لا ال*****ية كحركات لاغقلانيّة أساسية في تاريخ ابداعاتها.. و حتّى غرابة وليم بليك و صوفيته هي نمط مفرد، و بعيد عن هؤلاء المجانين الذين دعاهم هنري ميللر بمرضى آخر القرن التاسع عشر بل نجد الكاتب الانكلوسكسوني كما يقول ميللر يحافظ على حياة متوافقة ظاهريا مع المجتمع، حياة برجوازي صغير ... عكس الحس الاستفزازي، الكلبي الفرنسي المتحدّر من الثورة الفرنسيّة..
مرضى مللّر هؤلاء اشبه برجال الليل لدى هيراقليطس. تلك العقول النّقديّة الكبيرة، التي هدمت العمارةالكلاسيكيّة في الفلسفة و الشعر، و في الرّسم و الموسيقى... و لابدّ أن ننتظر بزوغ القرن العشرين حتى يظهر في الآداب الانكلوسكسونيّة رامبو آخر ، يظهر فجأة في شوارع بروكلين التي كانت بالنّسبة له هي الوطن، أمّا بقية أميركا فلا وجود لها، أميركا التي هجرها فيما بعد مثل رامبو و كتب عنها كتابه العتيد الجحيم المكيّف .. هذا التوصيف الذي صرنا ندركه اليوم جيّدا؛ و لكن لم ستيشعر ذلك أحدافي عشرينات و ثلاثينات القرن العشرين؛ و هذا تأكيد لقولة مللر من أن الفنّ الخقيقي لا يفهم الا بعد أن يكون قد مرّ عليه نصف قرن على اقلّ تقدير الخروج من المدن الحجرية . و هنري ميللر علامة تحول حاسم في تاريخ الكتابة الروائية في الغرب. فبعد العمائر و الكاتدرائيات الروائية الكبرى : من بلزاك و تلستوي , إلى توماس مان، و روجي مارتان دي غار؛ بعد هذه الرواية/الفريسك، أو الرواية/النّهر الممتدّة بلا نهاية؛ و التي تعرض و بكثيرمن الإسهاب، مسرح العالم الشاسع، ملحمة الناس في المدن و التاريخ ؛ نجد ميللر , و بحركة بهلوان صوفي، يحول السرد الروائي ليقول العالم الداخلي، عالم الذات العقلانية، واللاعقلانية، الذات المنعزلة... التراجيدية، المربكة، والتي في تحولها الحاسم , تتحول أشياء كثيرة , و كأن ......... صدى القوقعة الكونية الكتابة لدى ميللر , سأحددها بالنفي : فهي ليست محض حلم , و لا محض *****ية , و لا محض أوتوبيوغرافيا , و لا محض عقل. و لا محض جنون، و لا محض حدس، ولا محض شعر، ولا محض هذيان، ولا محض نثر ...فنصه هو كل هذا، و ليس هذا. متعال كالوجود عن كل تعريف، وكالوجود واقعي و لا عقلاني ولكنه حقيقي ... اللغة لديه هي الحياة ؛ هي الواقع مستعادا من خلال الذاكرة: زخما، متوترا، أكثر حقيقية في اللغة مما هو في العالم. يقول: " الأحداث، والوقائع هي أكثر حيوية لحظة كتابتها مما كانت عليه لحظة معايشتها " ... في نصه يختلط الواقع بالحلم , بأسرار عمل الذاكرة الشخصية والعرقية والكونية : " أنا رجل من العالم القديم، بذرة ازدرعتها الريح، بذرة فشلت في التفتح في واحة الفطور الأميركية. إنني أنتمي إلى شجرة الماضي الراسخة." و هو نفسه يقول عن كتبه أنها مثل الحياة تبدأ من أيّ مكان... لا نهائيّة النصّ كسر ميللر منطق وبنية النص التقليدي. لذلك فنصّه كالحياة يمضي في كل الاتجاهات لا نهائي: متوتر زخم، عقلاني، ولا عقلاني، *****ي و لكنّه يقول الواقع،،، حسّي ، غريزي، و لكنّه في الآن نفسه تجريدي و فلسفي، يعبر عن التجربة الانسانية في شموليتها و لا محدوديتها ،،، نصه هو حياته , وجوده . ووجوده , هو نصه , لغته . كل يحيل على الآخر. لقدوضع هنري ميللر خمسين سفرا ليروي هذه الحياة التي يقول عنها أنها تحتوي حيوات كثيرة : " أنا متخم بالتناسخات " ؛ وأ ن حياته ماتزال تحتاج إلى آلاف الأسفار الأخرى. و هذه الأ سفار الخمسين التي كتبها, لها وجودها الخاص، وجودها المتوتر، واللآ عقلاني, و الحكيم، والمدهش؛ تماما مثل ميللر الواقعي و الميثولوجي. لهذه الأ سباب وجد محاور ميللر كريستيان دي بارتيا عنتا كبيرا و هو يجهد داخل غابة الكلمات الميللرية ليستخرج خلاصة الرسالة الميللرية. وفي الفصل الأخير من كتابه هذا "حوارات الباسيفيك باليساد "نلفى لمعا، ومضات، و بوارق، في شكل جمل، جمل استقاها المحاور من نص ميللر الكتابي ـ الحياتي . فميللر من تلك الفصيلة الرمبوية ( نسبة للشاعر الفرنسي آرثر رامبو ) من الكتاب ؛ التي لا فواصل أو حدود لديها بين نصوصها و حياتها ؛ و هكذا تكتسب كتاباتها صفات المصير الفردي : من اعتباطية، و قدرية، و إطلاق. و عن تفكيره يقول: تفكيري دائري يذهب بعيدا ليصل إلى نقطة الانطلاق؛ لذا علينا أن نقرا نصّه بشكل مغاير؛ وألاّ ننتظره ان يقودنا في دروب واضحة تفضي إلى مساحات عارية مشمّسة ,, لا مقدمات لديه متلازمة مع نتائج... و ميللر ملحد يهدم في نصّه الكنائس الدينية، و العمائر الفلسفسة.. وهو في الآن روحاني مأخوذ بالإله وحده.. و لكن ليس إله التوراة ,, تراه يرسل النبوءات، و الرؤى، و الأفكار مباغتا نفسه من كتاب لآخر... لأول مرة ألتقي وفي مدينة الباسفيك باليساد في تموز من سنة 1972 , شابا في الثمانين من العمر. كنا قادمين انا وصديقي أوجين براون من سان فرانسيسكو بطريق الساحل، ولا أخفي أنه وبعد ما تجاوزنا بيغ سور بدأت شخصية الناشر الذي كنته ترتعد في داخلي؛ فأنا سألتقي أخيرا عملاق ماروسي, لماذا العملاق ؟ لا أدري . ـ سلام ـ سلام . ـ أنت ناشري؟ ـ أحدهم . ـ لاأنت لست ناشرا أنت كاتب . كيف؟ قلت لنفسي يدري مسبقا هذا الرجل الشيطاني ـ والذي لا يعلم عني شيئا ـ أنني أكدس في صندوق كبير من السعف جبالا من المخطوطات تنتظر تبييضها. أتطلع الى ميللر مقارنا بين صورته في الواقع وصورته في الخيال: إنه شبيه جنكيز خان وقد تحول الى بوذا. فهو مزيج من نعومة و حزم، ومفارقة خلقتها الحياة. كل شيء يختلط عليّ في الآن نفسه: عندما ينتصب واقفا كنت أجده أقصر بقليل مما هو عليه العملاق ميللر في خيالي ـ ميللّر كما يظهر في الأفلام، وعلى أغلفة الكتب، والشهرة , كنت بكل بساطة قد إلتقيت ـ وكل شيء يفاجئك لدى ميللر ولو كان معدا ومهيئا من زمان ـ إلتقيت بالحياة ـ الحياة ـ الحياة التي هي الله , الحياة بشكل مضاعف، وذلك بمقدار يعادل كمية الموت التي لقيتها قبل يوم لدى اندريه مالرو في اجتماع حيث بدا وكأنه يخاطبني على أني إنسان من عالم الأموات؛ ربما دون أن يدرك أني ما أزال على قيد الحياة. *** قال ميللر : - هل ترغب في لعب البينغ بونغ ؟ - أجل، بيد أني لا أجيد هذه اللعبة، كما ان لعبي ليس رديئا - أنت لاعب جيد، أدري ذلك، وأنا أيضا لاعب جيّد بيد ان خصري توجعني . - إذن لنحاول . بينغ بونغ 10/7 ـ 10/10 ـ 15/ 12 ـ 14 / 16 - " تتعمد هذه النتائج لأرضائي ؟ " قال لي . - لا مطلقا. 20/ 19 في شبكتي. أرفع رأسي متطلعا اليه. أجل إنه يجيد اللعب أحسن مني بكثير. ولكن وبسبب خاصرته الموجعة أدري اني أنا الأقوى. وأرفع بصري لأقذف بالكرة الأخيرة، وأرى ميللر في مواجهتي من الناحية الأخرى من الشبكة. لو كنت حقيقة ناشرا لتركته ينتصر سيما وان ميللر يكره الهزيمة . قلت في نفسي ليذهب الناشر الذي كنته الى الجحيم . و بدأ تقاذف الكرة من جديد . أحاول بقدر ما رمى الكرة هناك حيث يستطيع الحفاظ على فرصته في الإنتصار . لا , إن الرغبة لديّ قوية في ان أعيد له الكرة على أقصى يمين طاولة المضرب بطريقة لا يقدر معها على اللحاق بها . " بان " وتصير النتيجة 21/19 وحدثت نفسي : لا شك ان أمري انتهى مع ميللر!... ـ حسنا , قال وهو يستبدل مضرب الكرة بعصاه " ربحت الجولة ". ـ حقيقة انت لست ناشرا . ـ سأعود إن شئت في السنة القادمة و سنلعب مرة أخرى البينغ بونغ . ـ هيم ( وهي همهمة ميللر الخرافية ) تريد اذن محاورتي مثل بقية الآخرين ؟ - فكرة مثل هذه لم تنضج بعد. - حسنا، عد ثانية . *** في السنة الموالية رجعت صحبة ابني لوران " وأنا متخم" بعوالم ميللر. ألم أعد قراءة كل أعماله، و قلم الملاحظات في يدي؟ ـ كنت يومها خارجا لتوّي من" حوار " آخر أجريته مع صديقي الكاتب الأمريكي جيمس بالدوين، بعنوان " لون الروح " بلغ ذروته في التحليل النفسي. إضافة الى ذلك فإنه ومن خلال حوارات من هذا القبيل ـ خاصة مع الكتّاب ـ يستطيع الجانب الإستفزازي من شخصيتي أن يمارس دوره بامتياز. كنت أعي في نهاية المطاف أن سيجموند فرويد قد توصّل بمعنى ما من المعاني الى إطلاق شكل جديد للأدب: أدب يسمح بالضغط على زر خطير داخل النفس البشرية ـ لا فقط لان يدفع للأعتراف أولئك الذين لا يقدرون على الكتابة؛ وانما ـ و ربما بشكل أفضل ـ ان يلزم أولئك المتمكنين من حذق الكتابة، يلزمهم على مساءلة أنفسهم أكثر فأكثر. حينئذ تصير المحاورة، هي الفن الأصعب، والأكثر بساطة في الآن، والأكثر غفلا، ومع ذلك الأكثر إحكاما. ماذا لو كنا حاورنا بلزاك في عصره؛ وربّما حتّى لويس السادس عشر ـ ربما كان منحنا على أقلّ تقدير، إضافة الى عقله دليلا جيدا في صناعة الأقفال؟ ( كلامه لا يخترق مجاهل النفس ) إن هذه الجولة التي يقوم بها المحاور المحرّض، والمحرَض ( بكسرالرّاء وفتحها) تصير ـ في آخر المطاف؛ ولكل من المتاحورين ـ نوعا من الإختراق النفسي المتبادل. و يعود المحاور بعد هذه الرحلة العجيبة الى نفسه أكثر قوة، إن العزلة التي نعيشها في حضور الآخر تطرد من النفس كل العزلات الأخرى. حقا لقد كان هذا الحوار مع ميللر لحظة إلهية. *** لماذا نرسم بورتريه لميللر؟ فقد استمرّ هذا الكاتب يصوّر نفسه طيلة حياته، وما أعماله كلها سوى سيرة ذاتية تقع في خمسين مجلدا. وهي في الآن نفسه واقعية و مبتدعة. وهو الذي يقول عنها : إنّها تمثل جانبا ضئيلا من الإنسان؛ من كل بشري مأخوذ برغبة أكيدة في الخلق. أن تقول هكذا الشيء نفسه و بطرق مختلفة فان ذلك يدل على غناه اللاّنهائي. فهو يبتدع باستمرار حقيقته الذاتية التي تفوق الخيال بكثير. فميللر رجل متجدد باستمرا ر، ولديه عطش شديد للمعرفة، و للكراهية، وللمحبة. ولديه أيضا رغبة عنيفة لأن يكون كل شيء في اللحظة نفسها؛ رغبة لأن يعبر بكليّته غابته الدّاخليّة ( عالم الانسان الداخلي الشبيه بالغابة) حتّى يصل نقطة اللاّعودة ـ إنّه بوذا بمعنى آخر، فهو يعتقد ان الإنسان لا هو خيّر، ولا هو شرّير ـ النقطة التي يبلغها عبر معاناته الداخلية، وهي الحقيقة العميقة لكل البشر. و لكن ميللر هو شيء آخر أيضا : انه الغريزة، والجنس وهو الحياة المفعمة، والمجنونة والتي بلا معنى، والباحثة عن الوحدة والتوحّد، وعن الزخم الأقصى. إنها الحياة التي تنبئ عن نفسها بكثافة حاسمة في روايته " مدار الجدي " ذلك العمل الأدبي ربما الأكثر تعبيرا عن ذاك الشاب الديونيزوسي الذي سيمضي بعد انجازها بقليل الى اليونان. ورغم كل ذلك فإن ميللر الذي ظلت طفولته هي المرجع الدائم لعمله لم يبق في العمق هو نفسه. فقد تخلص مبكرا من رمز الأم ( قتل أمه رمزيا ) ـ ألم يكن يدخن السيجار في رحم أمه ـ أمه التي لم تمنحه الحنان الكافي ـ لقد عاش ميللر مهيئا لأن يترك نفسه يصاب بجنون عمته، او يصاب بالحزن العميق لأخته البلهاء، أو يصاب بنفاق عائلته التي بلا مشاعر؟ !! سيظل هذا المناخ العائلي , ولفترة من الزمن عذبا لديه , الى حد ما ـ حتى تغادر تلك العينة الجرمانية منزل العائلة و تخرج الى " شارع الأحزان الأولى " الشارع المخبول والمجنون , شارع الحيوانية البدائية, و شارع الأصدقاء الذين سينتهي أغلبهم الى الفشل، ذلك ان المجتمع لن يسمح لهم أبدا بأن يصيروا رجالا متفوقين. وقد استمر ميللر طيلة حياته روائي هذه الطبقة المتوسطة . بعد هذه المرحلة تبدأ حياة التصعلك مع يون؛ يون الأ نثى البركانية. مرشدته قبل ان يلتقي أناييس نين " العذراء المنتحبة " و" الكائن الكوكبي " ويون هي التي ستدفعه الى ان يحوّل تلك الدفاتر وتلك اليوميات الخاصة، والمقذوفة عشوائيا على الورق في شكل هواجس، أن يحوّلها الى كتب تقرأ. وفي باريس، وبداية من 1928، في أعقاب السنوات المجنونة ـ أكان لزاما على الأمريكيين ان يغادروا في كلّ مرّة بلدهم للحصول على مسافة كافية إزاءه ؟!! ـ نجد ميللر ذلك " البركان المختنق " يكتشف مدينة الشوارع، و المقاهي، يكتشفها في البؤس وفي الضحك. انها بدايته الحقيقية في سنّ الأربعين تقريبا، في تلك اللحظة التي يكون فيها أغلب الكتّاب قد أنجزوا أعمالهم الأساسية، و صاروا لا يتحدثون سوى عن الذكريات. في تلك الفترة كان ميللر محمولا فوق مدّ الكتابة؛ ووقتها ستبدأ أعماله بالتتالي " مدار السرطان "، و " مدار الجدي "؛ و في الأخير تأتي مرحلة اليونان سنة 1938 , مع لورانس داريل. يونان الفرح البدائي، وليست اليونان الأركيولوجية الأثرية، ولا يونان الأسلوب الكلاسيكي، وانما هي يونان العملاق ماروسي، اليونان الراهنة، تلك الشبيهة بشمس هائلة في ليل الغرب. ومع نشوب الحرب العالميّة الثانية يعود ميللر الى الولايات المتحدة: انها حقبة الزمن المستعاد، زمن كتابة " ربيع أسود " بعدها تأتي مرحلة التأمل الطويل في بيغ سور على شاطئ المحيط الهادئ "تلك البحيرة " حيث يشعر ميللر الأبولوني، والمتصالح مع ذاته با نبعاث جديد مع حضارة تنبع من آسيا؟ و هناك، وهو يستبدل نساءه كتب " الصّلب " أمام الصين، والهند. وفي اللحظة التي بدأت فيها التّبت تسكنه؛ التّبت التي لم يزرها أبدا. *** ها انا في " الباسيفيك باليساد " للمرة الثانية، وهنري ميللر متمدد أمامي، وقد بلغ نوعا من السعادة العظمى لم تصل الى حد النرفانا. إنه الآن بوذا : مكتئب من عالمه، و شبه سعيد مع نفسه. ويبدو لي منخرطا في حياة أ خرى مخالفة تمام المخالفة للموت ( ذلك ان الموت كما يقول ميللر في مكان آخر أنّه بعد آخر للحياة ) وفي سنّه هذه يتذكر طفولته بدقة عجيبة: إنها الأكبر حضورا في دخيلته من أيّ شيء آخر. لقد تحدثنا عنها باستفاضة في اللحظة التي شرع فيها بكتابة " كتاب الأصدقاء ". ان أعماله التي مررنا عليها في الأحاديث كثيرا ما كانت تبدو غريبة عليه. كان يقول لي باستمرار " هل تعتقد اني كتبت هذا، ربماغيري هو الذي كتبه ؟! " شخص آخر يعبر البحر، بيد انه لن يصل مطلقا الى الميناء ". أخيرا بحثنا سويا عن رسالة ذاك الإنسان الذي " يعتقد انه انتصر على جنونه , و تخلص او يكاد من مخاوفه . "وهذا ألا يعني انه يوجد في أعماق كلّ انسان طريق يفضي الى الخلاص؟ وأن الإنسان هو مخلص نفسه بنفسه؟ إن هنري ميللر هو الذي يدلنا على أول هذه الطريق؛ وعلينا نحن اكتشاف بقيتها. ـ الى اللقاء يا كريستيان، قال لي. عد في يوم آخر. كريستيان دي بارتيا نظرة طفل كريستيان دي بارتيا : هنري أود ان أجري معك ثلاث مجموعات من الحوارات هنا في الباسيفيك باليساد. على ان تتمحور المجموعة الأولى حول طفولتك التي تحدثت عنها كثيرا وبما لا يكفي. ليس طفولتك، و طفولة الآخرين فحسب؛ وانما طفولة كل أطفال العالم، بدايات كل البشر . أما المجموعة الثانية من الحوارات فأريد ان تكون نوعا من الرحلة خلال كتبك , رحلة نتتبع فيها وقائع حياتك في تسلسلها الزمني على ألا أقوم بهذه الرحلة بمفردي كما فعلت في فرنسا قبل ثلاثة أشهر عندما عدت الى قراءة أعمالك. وبما ان هذه القراءة ماتزال تحتفظ بحرارتها في أعماقي فإنني ارغب في تنشيط ذاكرتك. طبعا سوف لا نتكلم عن كل شيء، بيد أنني سجلت جملا كثيرة من كتبك , جملا ذات دلالة , جملا متفجرة, جملا من تلك التي كان لها دون ريب تأثير كبير عليّ. وانتهاء اريد ان تكون المجموعة الثالثة من هذه الحوارات مكرّسة للرسالة الميللريّة , تلك الرسالة الطبيعية , رسالةالإنسان , و رسالة الإنسانية التي قلت عنها وفي كل ماكتبت انها تسير على درب انهيارها . هنري ميللر : الحاصل انك تريد ان تضع كتابا حول كل هذا , لا أدري إن كان هذا جيدا؟ كريستيان دي بارتيا : أجل إنه في الإمكان... وفي كل الحالات لا استطيع ان أدرك ذلك الآن , فهو عمل مايزال غفلا, و انا، سأستنسخه ثم أطلعك عليه و بعدها انت تقرر. أما بالنسبة لي،فحتّى لو يظل هذا العمل داخل الأدراج فإنني أكون ـ مع ذلك ـ قد انجزت رحلة طويلة . • ميللر: لنشرع في العمل . كريستيان دي بارتيا : الملاحظة ان طفولتك تتردد باستمرار في أعمالك؛ و رغم ذلك لم تكرس لها أبدا كتابا بمفرده . • ميللر: صحيح . كريستيان دي بارتيا: لنتحدث في الأول عن صورتك الأسترولوجية , ما سأدعوه فيما بعد بـ" محيطك " اذ يبدو ان هناك حقبتان في طفولتك , فحتى سن التاسعة كنت سعيدا , وبعدها وقعت في النقيض . • ميللر: أجل . كريستيان دي بارتيا: ربما كانت هذه المفارقة الأساسية لحياتك , وهي تلك الطفولة التي كانت اوبولونية بحق , وبعدها تلك اليفاعة التي شرع فيها ديونيزوس باجتياحك . ميللر: البارحة كنت قد بدأت أحدثك عن أمر غريب يتعلق بطفولتي، وبالتربية التي تلقيتها. وكما لمست انت في كتبي فأنا ضدّ كل نظام تربوي؛ لقد كنت دائما أريد ان أهدم المدارس، و أحرق المكتبات. وما يبدو باعثا على الجنون أكثر من غيره هو أني كنت قارئا نهما. إنني ايضا رجل عصامي، و أعتقد أن الشيء الأكثر اهمية هو أن نعلم أنفسنا بأنفسنا، وألا يكون لنا خطة تعليمية نتبعها، وألا نتعلم على أيدي الآخرين اللهم إلا اذا وقعنا على أحد المعلمين الكبار؛ والعالم لايخلو من بعضهم و هم في الأغلب وجوه دينية ـ و رغم أنني لا أنتمي الى أيّ دين فأنا أعتقد ان هذا يمثل نقصا في حياتنا , لا أحد والحق يقال قادر على منحنا معرفة صحيحة بالديانة الحقة للحياة , و لا يوجد هذا النموذج في أيّ مكان: لا في أمريكا، ولا في العالم الغربي الذي أعرفه . فكل الناس يذهبون الى الكنيسة، او الى البيعة، او الى المعبد وهو الأمر الذي لا علاقة له في رأيي بالدين ـ ولنعد الى الآباء فهم بصفة عامة يجهلون تنشئة أطفالهم. و إنه لمن الأفضل للطفل أن يتوارى عنه أبواه و بعدها ومثل أوليس سوف يعثر على نفسه بنفسه . كريستيان دي بارتيا : و ذلك اذا كان الطفل قويا. اذ يبدو ان هناك فارق بيولوجي كبير بين أطفال العائلة الواحدة فقد يبدو بعضهم محصنا جدا والآخر أقل حصانة . ميللر: ربما لمست هنا أحد الملامح الأساسية لمزاجي. فأنا أخال نفسي قريب الشبه بالحصان الذي قليلا ما يتطلّع في كل الجهات. والواقع اني مفكر ذاتي جدا، ولا أتكلم إلا عمّا كنت أود القيام به. لو كنت إلها، أجل إلها قادرا على تنظيم وتسيير كل شيء . الآن صرت أعي ذلك . وأنا لم أقرأ أبدا كتاب " إميل " لجون جاك روسو , و أعرف انه أثر عظيم . ولم أفتح مطلقا أيّ كتاب من كتبه الأخرى, ولا حتى " الإعترافات "؛ ولكن أدري ان لروسّو أفكار رائعة , ومع ذلك فلم يكن هو أبا جيدا أليس هنا المشكل الحقيقي ؟ إنه مجرد سؤال ساخر . كريستيان دي بارتيا : كان روسّو يقول ان الأطفال متوحشون طيبون وكذلك الكبار ايضا . ميللر : نعم أعتقد ذلك , ولكن ورغم توحّشنا فإننا ننطوي على مزيج من النزعات. فالإنسان هو ذاك الحيوان الغريب, إنه قريب من الشيطان أو الوحش و لكنه، وفي الآن نفسه غير بعيد لأن يكون إلها. و هاتان الطبيعتان متغلغلتان فينا , إنها ازدواجية الإنسان وهذا الأمر لايوجد لدى أيّ كائن آخر و نحن لنا ـ كما أرى ـ الخيار في المضيّ داخل هذا أو ذاك من المسلكين؛ و بما أن الأقدار لم تقرر أين يجب أن نمضي فالدرب مفتوح أمامنا، ونحن قادرين على صنع مصيرنا الخاص . لقد اصبت عندما قلت ان ـ سنواتي التسع الأولى كانت رائعة. و أنا أسميها جنّتي الأولى على الأرض، وفي الواقع لديّ ثلاث أو أربع جنّات على الأرض. ولعل تلك الجنة الأولى هي التي شكّلت طبيعتي المتفائلة . حقا لم تعترضني فيها مشاكل , عرفت الأمراض التي يتعرض لها الأطفال وهي الآلام الوحيدة التي يبدو اني أتذكرها . صحيح ايضا ان أمّي لم تكن شديدة الحنوّ عليّ بيد أن ذلك لم يكن يحزنني مطلقا . بعد ذلك وعندما ذهبت الى المدرسة أدركت كيف تكون هي الأم وأنا أصغي الى أمّ حقيقية تحدث ابنها أمامي. قبل ذاك اليوم كنت أفكر أن الآباء هم مجرد سلطة تأديبية تقول لك "إفعل هذا الأمر" أو " لا تفعل هذا الأمر " كانت لأمّي بلا شكّ خصلة جيدة ـ وبسببها، و رغم ذلك كنت أكرهها و تتمثل تلك الخصلة في ذاك القدر الكبير من الحرية الذي كانت تتركه لي. كنت أستطيع أن أغادر البيت من الصباح؛ وأظل أتسكع مع أصدقائي في الطرقات كامل النهار لأ عود الى البيت في ساعة متأخرة من الليل. لم يكن أحد يسألني شيئا ؟ و الامر يتعلق بذاك الشئ الذي اضعه فوق كل اعتبار وهو حريتي؛ لقد حصلت عليها مبكرا في الحياة، وبعد ذلك ظللت باستمرار أناضل من أجلها. إنها أثمن شيء، وهي الشيء الذي لا تستطيع أيّ حكومة في الدنيا ان تمنحه لنا: وعلينا إعادة خلقها من جديد لأنفسنا . كريستيان دي بارتيا : هناك أيضا الرسالة الفرويدية التي عبّر غنها لينغ Laing والتي تقول أن رعب إحدى الجدّ ات منذ قرن قد يستمر تأثيره علينا إلى اليوم . ميللر: يونغ أيضا تحدث عن هذا. هذا صحيح أن الأشياء الموروثة لدينا تفوق تلك النابعة من حياتنا ـ إن تاريخ الجنس البشري والحيواني كامن فينا . كريستيان دي بارتيا: ممكن القول انك لم تكن تحب أمك كثيرا , وفي المقابل كنت تعبد جدّتك ؟ ميللر: في الواقع لم أكن أحب أحدا في تلك الفترة من عمري. وحتى نقول الحقيقة فإن الشيء الوحيد الذي كنت أطالب به هو أن يتركوني و شأني, لم يكن الحب مطلبي, ولم أكن ملتصقا لا بأمي ولا بأبي. أتذكر جدي الذي كنت أجده لطيفا جدا معي, كان يعمل ترزيا , وكان يخيط وهو جالس على الأريكة فكنت أجلس على الطرف الآخر منها لأطالع , وكانت تنتابني أحيانا الرغبة في أن أقرأ له كل شيء , وكان في بعض اللحظات يغني لي , أو يقدم لي إبرة وخيطا وقطعة صوف و يقول لي اصنع جاكتة صغيرة. كريستيان دي بارتيا: يبدو العالم في كتبك وكأنه يشبه قطعة لباس؛ و يبدو الإله و كأنه خيّاط . ولكن ثمة شيء آخر في طفولتك , إنها علاقتك بعمّتك المجنونة التي علّمتك الشعر ؟ ميللر : أكيد وانما تم ذلك في الحقبة الثانية من طفولتي اذ نجدهذه العمّة تدخل حقيقة في حياتي . كنت قد تجاوزت العاشرة من عمري في تلك الفترة , و كنت أختلف الى المدرسة و صرت أكثر وعيا بالقضايا الحميمية " جثث في خزانات الملابس " كانت لنا في العائلة ـ وكما ذكرت ذلك في كتابي " ربيع أسود " كمّ كبير من الجثث و الرعب والسفاح. من الأمثلة على ذلك , كان هناك قريب أدعوه العم جورج. لم تكن له سوى ذراع واحدة اذ كان قد أسقطه حصان من على صهوته. وكان الكل يسخر منه , وانا صغير كنت أخجل من رؤيتهم يتندرون به . و بمجرد أن يعطيهم بظهره , كانوا يتضاحكون عليه كما لو كان غبيّا في حين انه كان مجرد إنسان غير عادي ـ ربما كان غبيا بالمعنى الدوستويفسكي . كان رجلا دائم الحبور، وكان يأتيني بهدايا. أتذكر كل هذا ـ كان يأتي بهدايا للكلّ، وكان هذا يضحكهم وتتمثل هذه الهدية ببطاقة بريد، او بصورة صغيرة رسمها بنفسه . كان يجيء لزيارتنا في عيد الميلاد، او في اليوم الذي يليه؛ وكان بمجرد ان يتجاوز عتبة الباب يمضي رأسا لكل واحد منا ويقدم له شيئا وهو لا يزال يضحك وانا متأثر. فقد كنت اعتقد انه انسان طيب . وقد كنت في الواحدة والعشرين من عمري عندما اكتشفت انه جاء الى الدنيا نتيجة علاقة سفاح بين اخت و أخيها ؛ |
12/5/2008, 01:34 PM | رقم المشاركة : ( 3 ) | |||
Guest
|
رد: ان كنت تهتم بلادب فمن هو هنرى ميلر
مشكووووووووووووووووور
|
|||
27/7/2008, 11:04 PM | رقم المشاركة : ( 4 ) | ||||
نـجـم الـنجوم الـمـميز بـالـمهندسين الـعرب
|
رد: ان كنت تهتم بلادب فمن هو هنرى ميلر
|
||||
13/8/2008, 02:34 AM | رقم المشاركة : ( 5 ) | ||||
صديق المهندسين
|
رد: ان كنت تهتم بلادب فمن هو هنرى ميلر
باااااااااااااااااااااارك الله لك
|
||||
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
Google Adsense Privacy Policy | سياسة الخصوصية لـ جوجل ادسنس
^-^ جميع آلمشآركآت آلمكتوبهـ تعبّر عن وجهة نظر صآحبهآ ,, ولا تعبّر بأي شكلـ من آلأشكآل عن وجهة نظر إدآرة آلمنتدى ~